د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الوحدة في الذاكرة العربية !!

ارتبطت كلمة " الوحدة " في الذاكرة العربية بهالة من الأماني والأحلام وقد تصل إلى مرتبة أقرب الى القداسة رغم أن الواقع العملي يدحض ذلك جملة وتفصيلا !!
ومن المفارقات الغريبة أن العرب يعتقدون أن سبب ضعفهم وهزائمهم هو تفككهم لدول صغيرة، مع أن الكثير من الدول الصغيرة تمكنت من تأمين حياة عزيزة وكريمة وسعيدة لأبنائها مثل : سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان إلى سويسرا والنمسا حتى كوستاريكا، كما أن بعض الدول الكبيرة لم تستطع أن تقدم لأبنائها الرفاهية ولا الكرامة مثل إيران وروسيا. ونجحت الحركات القومية في ترسيخ هذه القناعة عند الشعوب العربية مع أن هذه الحركات لم تجلب لشعوبها سوى أسوأ الأنظمة وأكثرها إجراما !!
واستنتاجنا هذا لم يولد من خيال جموح بل من واقع مؤلم وتجارب مريرة ملموسة تعارضت بل وجردت " الوحدة "من هالة القداسة بل وأفرغتها من محتواها وجردتها من ثيابها حتى كشفت عورتها وكل عيوبها ومثالبها ، ولعل السبب في ذلك أن العربي في الأغلب الأعم لا زال يفكر بعقلية الغزو والسطو والنهب لأملاك الآخرين وأن الوحدة لا زالت في نظره هي تحصيل حاصل للنهب وتعطيه الحق في السطو على كل موارد الوطن والمواطن وهذا بالضبط ما حصل أثناء الوحدة المصرية – السورية التي فشلت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي !!
وأعادت إلى الأذهان ما جرى ولا زال يجري من محاولات مستميتة من قوى الهيمنة القبلية والكهنوتية الحوثية في تأجيج الصراع في اليمن تحت هذا الشعار " الاكذوبة" فقبل بضعة عقود كان الجنوب العربي مجموعة سلطنات وإمارات وسلطنات مثل بقية سواحل الخليج والجزيرة العربية، وكان سكانها يتكون من شرائح تشمل القبائل والتجار والصيادين والفلاحين والحرفيين وسائر المهن الأخرى . وجعلهم موقع مناطقهم الجغرافي على البحر على تواصل دائم مع العالم الخارجي خصوصا خلال 139 سنة من الاحتلال البريطاني برزت فيه عدن كمدينة عصرية وواحدة من أهم موانئ العالم، وشمل تأثيرها الثقافي محيطها في الجنوب العربي . .وفي المقابل، كان سكان اليمن فلاحين ورعاة وقبائل محاربة تنهب وتتقاتل فيما بينها ، يعيشون في شبه عزلة عن العالم الخارجي، وينقسمون إلى عدة قبائل ومذاهب، وعندما كانت تقوى شوكتهم كان الجنوب العربي هو المكان المفضل لغزواتهم، بحيث طبعت الحرب شكل العلاقة بين الشمال والجنوب لقرون عدة!!
في بداية عام 1959 شكلت بريطانيا اتحاد إمارات الجنوب العربي، ثم مع تحول اليمن "الشمالي" إلى النظام الجمهوري بعد انقلاب عام 1962 على حكم الأئمة في ذات الوقت تم تشكيل اتحاد الجنوب العربي، في هذا الوقت تحديدا كانت حركة القومية العربية في أوجها وانعكس ذلك في فكر بعض القيادات السياسية الجنوبية التي كانت تكافح من أجل الاستقلال وتحلم ببناء دولة قوية وكان معظمهم من الحالمين حتى أنهم لم يقرأوا التاريخ ومحطاته الفاصلة وفهم العلاقة بين اليمن والجنوب وكان أغلبهم من الجامحين !!
كان هؤلاء الشبان المغامرين لديهم هوس وحب للسلطة لا يمتلكون الخبرة والحصافة والحنكة السياسية و لم يجدوا من يحققون معه الوحدة سوى الجارة الشمالية "الجمهورية العربية اليمنية"، فأطلقوا على حركتهم عام 1963م اسم " الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل " ، ورغم أن هذه التسمية تشير إلى موقع جغرافي ولا تعني بالضرورة أن هذا الإقليم جزء من اليمن، ولكنها مهدت الطريق إلى ذلك عندما جعلت الدولة الوليدة تحمل بعد الاستقلال اسم" جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" والذي تحول فيما بعد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية !! وفي نهاية الثمانينيات عندما احتدم الصراع على السلطة بين "الرفاق اليساريين"، حكام الجنوب، والذي ترافق مع قرب انهيار الاتحاد السوفياتي الداعم الرئيسي للنظام،
لم يجد بعض قادة الجنوب أمامهم من خيار سوى إطلاق مفاوضات للوحدة مع اليمن ، انتهت إلى وحدة ارتجالية برئاسة علي عبد الله صالح عام1990ربما اعتقد بعض الحالمين من اليساريين والاشتراكيين الجنوبيين أنه باتحادهم مع الشمال سيتمكنون من نشر أفكارهم في اليمن عبر افتتاح مكاتب لحزبهم هناك، وكانت تجربة الحزب الاشتراكي مثقلة بآلاف الضحايا من أبناء الجنوب ولم تكن كوادر الحزب وهياكل الدولة الجنوبية بعيدة عن عجلة الموت التي دمرت الأخضر واليابس خلال حكم الحزب من عام 1967م وحتى 13 يناير 1986م الذي أقصى كل المكونات السياسية الجنوبية ودر البلاد والعباد وهرب إلى الوحدة طالبا النجاة وطمعا في أن يعمم تجربته في اليمن من خلال الوحدة !!
ولكن ما حدث هو أنه خلال ثلاث سنوات تم اغتيال 158 سياسي من قيادات الحزب الاشتراكي من قبل إسلاميين أو جهاديين!!
وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1993 تحالف حزبا المؤتمر والإصلاح الشماليان ضد الحزب الاشتراكي الجنوبي فخسر الانتخابات وتم إبعاده عن العملية السياسية، ولم تكن هذه النتيجة مفاجئة فعدد سكان الشمال أكبر بمرات عدة من سكان الجنوب، اعترض قادة الجنوب على نتائج الانتخابات وطالبوا بتقاسم السلطة مع الشماليين فرفض علي عبد الله صالح،وتمكن خلالها جيش الشمال المدعوم من القبائل والجهاديين من احتلال الجنوب خلال بضع أسابيع وتم إلغاء اتفاقيات الوحدة بما انتهى عمليا إلى ضم الجنوب للشمال، وأعقب ذلك مصادرة أملاك الكثير من المواطنين منذ هذا التاريخ أصبحت رغبة الجنوبيين بالانفصال علنيّة، واستخدموا للتعبير عنها جميع الأساليب المتاحة، إلى أن تم تشكيل الحراك الجنوبي عام 2007 من قبل متقاعدين عسكريين ومدنيين تم تسريحهم من عملهم، وفي عام 2008 اعتبر هؤلاء أن بلدهم محتلا من قبل الشماليين ورفعوا شعار الاستقلال ونظموا الكثير من الاعتصامات والمسيرات، التظاهرات الأخيرة أثبت أن نسبة كبيرة من الجنوبيين تريد الانفصال عن اليمن، وبدل الخوض في جدل عقيم حول حجم التأييد الشعبي للانفصاليين، من الممكن إجراء استفتاء تحت إشراف دولي لمعرفة ما يريده الجنوبيون !!
ولكن الواقع السياسي على الأرض تحول إلى نسبة 80%عندما أستولى الحوثيون على السلطة في صنعاء وما نتج عن ذلك من تداعيات على اليمن شمالا وجنوبا وهذا هو موضوع حلقتنا القادمة .
د. علوي عمر بن فريد