فاروق يوسف يكتب:
شعوب يحكمها الأموات في دول هي متاحف شمع
هل سيختفي لبنان ويبقى نبيه بري؟ الرجل أطول عمرا في السياسة من البلد الذي تغيرت صورته فانتقل من كونه سويسرا الشرق المغمور بأشعة شمس الحرية إلى ما يشبه الجحر الذي تخفي فيه إيران فئرانها.
لبنان الأجيال العربية الهاربة إليه بحثا عن حياة مختلفة ذهب إلى غير رجعة واختفت تلك الأجيال فيما ظل بري صامدا مثل هيكل تمثال نخره النمل ولم يسقط بعد لأن اللبنانيين المبتلين بالأزمات لا يريدون أن يضيفوا أزمة جديدة إلى أزماتهم بسقوطه. بقاؤه أفضل من الاختلاف على بديل له. تجاربهم في ذلك المجال أكثر من سيئة.
نبيه بري هو نموذج مستعار من متحف الشمع الذي انتهى إليه مفهوم السياسة في العالم العربي. فلو قارنا تجاوزا للمنطق ما بين الحياة السياسية في العالم العربي وبينها في العالم نكتشف بيسر أن ستة رؤساء أميركان يختفون فيما الزعيم العربي باق في مكانه تحت الشمس. زعماء أحزاب تاريخيون كان لهم أثر في المصير البشري ذهبوا إلى بيوتهم فيما حسن نصرالله لا يزال يقاوم من موقع خفي. ديغول رجل التاريخ استقال في لحظة حرجة بسبب شعوره بأن حاجات الشعب الفرنسي قد تجاوزته ولم يعد الزعيم الذي قاد فصائل التحرير في الحرب العالمية الثانية مناسبا لمرحلة ما بعد ثورة الشباب عام 1968.
القائد الحقيقي ليس أعمى. لا تعميه الأضواء عن رؤية الحقيقة.
اما في العالم العربي فلا يفتح القائد الملهم عينيه إلا على المؤامرات والدسائس وخزائن الأموال والذهب. يد تنهب ويد تقتل. كل التماثيل التي تم اسقاطها لم يحدث سقوطها دويا ينسجم مع ما شكله حضور أصحابها من ثقل على العين والعقل والقلب.
زعماء كانوا يعتقدون أنهم خالدون. وهي واحدة من أكثر الأفكار سخفا لا أدري كيف يرتضيها إنسان لنفسه. ولكن صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد لا تزال كميات من صورهم التي طبعت في حياتهم تملأ المخازن. عن طريق تلك الصور يبقى الزعماء خالدين. ذلك جنون أصيبت به الشعوب المنكوبة يكل أنواع القمع. فالوجه نفسه الذي تراه في كل أوقات اليوم وفي كل الأمكنة سيكون عليك أن تراه في الأحلام. ذلك لأن خارطة مصيرك قد وضعت تحت مخدته.
الشعوب هي الأخرى مشكلة. ولكن من يجرؤ على هجاء الشعوب؟
إذا كان هجاء الزعيم المستبد خيانة للوطن عقوبتها الاعدام فما هي عقوبة هجاء الشعب؟ في الوقت نفسه فإن الشعب الذي يُقدس زعيمه هو في معيار الحقيقة لا قيمة له من وجهة نظر ذلك الزعيم. القطيع الذي يخاطبه بـ"يا شعبي العظيم" يمكن استعماله حطبا لنار حرب عبثية. كانت هزيمة النظام العراقي في حرب تحرير الكويت عام 1991 تحمل عنوان "أم المعارك". وكان الشعب يومها يفكر في أن هناك مَن غدر بالرئيس الضرورة.
ولن أكون مبالغا إذا ما قلت أن العراق اختفى فيما يقف صدام حسين جاهزا للنظر في أية لحظة. تشظت ليبيا والقذافي لا يزال ملكا لأفريقيا اما سوريا التي صارت أشبه بقطع البازلت فلا يزال حافظ الأسد يحكمها إلى الأبد. سيُقال دائما إن تلك دول محكومة من قبل الأموات. لا يكلف نبيه بري نفسه في التفكير في مَن سيكون رئيسا لمجلس النواب اللبناني في المرحلة المقبلة. سيكون نبيه بري طبعا. الصنم يرأف بشعبه من الاختلاف ويبعده عن الشقاق وإلا فإن الحرب الأهلية خلف الباب.
ولكن ما مناسبة ذلك الحديث الذي من غير طعم كما يقول اللبنانيون؟
الانتخابات العراقية التي ستجري بعد أيام لا تستبعد الشخصيات المقدسة التي جلبها المحتل الأميركي ووضعها على كراسي الحكم منذ حوالي عشرين سنة بل تتعامل معهم باعتبارهم ايقونات الحياة السياسية التي تطل من علو على المشهد لتشرف عليه وتباركه وتهبه شيئا من حكمتها. فالمرشحون للذهاب إلى مجلس النواب هم صبيان وخدم أولئك الزعماء. وإذا ما عرفنا أن أكبر أولئك الزعماء وأكثرهم أهمية كان يقف مرتجفا في حضرة قاسم سليماني يمكننا الحكم على تفاهة وصغر ما يمكن أن تنتج عليه العملية الانتخابية. زعماء صغار يتبعون زعماء هم الآخرين صغار أيضا.
لا يزال العراق حبيس مفهوم الزعيم الخالد الذي اختفى من غير أن يترك حيزا لولادة زعيم خالد بديل. ذلك الفراغ الذي يشكل مصدر فزع بالنسبة للزعماء الذين وعدوا أنفسهم بالخلود.