د. ساسين عساف يكتب:
الانتماء للعروبة الوحدوية الحضارية (أمين الريحاني نموذجاً)
- في المنهج وحدّ المصطلح
من الأدعى منهجياً تحديد معنى العروبة الوحدوية الحضارية ربطاً بأمين الريحاني.
اذا كانت العروبة تعني الهوية العربية فهذا ما ينطبق على هوية أمين الريحاني الذي أفصح عنها غير مرّة بقوله أنا عربي. واذا كانت الوحدوية تتّخذ شكل الدولة العربية اللامركزية الاتحادية فهذا ما ينطبق أيضاً على أمين الريحاني في المرحلة الأخيرة من مراحل تدرّج فكره السياسي. وإذا العروبة الوحدوية الحضارية بجمعها البعدين القومي والإنساني بما يعني نقيض العنصريات كافة فهذا ما ينطبق على المنظومة الفكرية الشاملة لديه بما فيها فكره السياسي تحديداً المرتكز إلى الحريات والديموقراطية وتعدّدية الأبعاد وتكاملها في الهوية الواحدة.
- في أثر الاتجاهات الفكرية الإنسانية التي كانت سائدة في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين:
سادت الاتجاهات الاسرارية، خصوصاً التيوزوفية، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. مركزية تفكيره العام تكوّنت داخل هذه الاتجاهات الوحدانية القائلة بوحدة الأديان، كتاب "خالد" خير معبّر عنها كذلك قصيدة "أنشودة الصوفيين". ايمانه بالوحدانية شكّلت خلفية تفكيره السياسي فلبنانيته مثلاً نقطة التقاء بين الاسلام والمسيحية، يقول: وانّني أيّها السادة مسيحي في الانجيل ومسلم في القرآن. والوحدة العربية لديه هي تآلف أديان وطوائف في الوطن العربي. " أقول بالخروج من الفكرة الطائفية الى الفكرة القومية.. العروبة تجمعنا.. العروبة توحّدنا.. العروبة تظهر القوى الكامنة فينا وتستنهضنا.."
- في الوعي القومي
لقد أسهم في توعية العرب على المشروع الصهيوني الذي أعدّه الانكليز لفلسطين. وهو أدرك خطر الصهيونية قبل قيام الكيان الصهيوني. يقول في إحدی مقالاته: "الصهيونية متّحدة فعلِينا بالإتحاد.الصهيونية منظّمة فعلينا بالتنظيم. الصهيونية مجاهدة فعلينا بالجهاد. الصهيونية شديدة الإيمان فعلينا بإيماننا العربي القومي نوحّده ونعززه. الصهيونية غنية وما نحن بفقراء. وللصهيونية دعاية كبيرة في العالم فعلينا أن نقاومها بدعاية مثلها". أدرك الريحاني منذ مطلع القرن الخطر الصهيوني، فكتب وحاضر في أميركا وفي البلاد العربية محذراً من الأطماع الإستيطانية في فلسطين، وندّد بوعد بلفور.
هذا لجهة الانكليز أمّا لجهة الأميركيين فقد تصدّى كذلك لصهيونيتهم بما يلي من كلام: "ويلك يا نيويورك! ويلك، اكتبي الحجّة ليهودك بماء الذهب، وسجّليها في سجلّ الصيارفة والكهّان، ومثّلي روايتها بالأفلام والكلام على ألفي مسرح وشاشة. وبعد ذلك؟ ماذا بعد ذلك؟ ستستفيقين ذات يوم قبل صياح الديك وستصفرين صفير الهول والهلع، ستسمعين صوتك يناديك ويقول: صدق العربيّ البار، الحقّ أصدق أنباء من الدولار."
ولم يوفّر الفرنسيين مؤكّداً أنّ دورهم كان خطيراً "في الغاء التوازن الاجتماعي والقضاء على اتّحاد أبناء الأمّة ومناهضة العرب على أساس ديني."
- في تمسك الريحاني بمطلبي الحرية والديمقراطية:
الحرية عنده مرتكز فكري أساس. يقول: "هي رفيقتي في السفر هي المبتدأ في حياتي والخبر." وهذا من تأثير انتمائه الى التيار العرفاني القائل بحرية الروح أو ارتقائية الروح عن طريق التأمّل أو التفكير الحرّ المتفلّت من ضوابط العقلانية. ما يعنينا منها هنا الحرية السياسية التي بدونها، وفق رأيه، تبقى الحرية الاجتماعية حرية ناقصة. فحرّية الأمّة عنده وقوّة روحها واستقلالها وعزّتها مشروطة بالقوّة ثمّ القوّة ثمّ القوّة: القوّة العقلية العلمية، القوّة الروحية اللاطائفية، والقوّة المادية الاقتصادية. أمّا الديموقراطية فله بشأنها وشأن الحكم الديموقراطي مقولات ترى فيها نقيضاً للطائفية: "الحكومة المؤسّسة على الطائفية حكومة ظالمة."
- في الحدّ الجغرافي لانتمائه الوطني ودعوته الوحدوية:
سوريا (وفلسطين) وما بين النهرين وجزيرة العرب هذه البلاد وطننا. لقد وعى المكان مكوّناً من مكوّنات وعي الهوية فللمكان عبقرية خاصّة في صنع الهويات. هذه البلاد تشكّل عمق الارتباط الجغرافي لايمانه بوحدة الأديان الساميّة.
- في الارتباك حول مفهومي القومية والوحدة:
نسأل عن مرجعية الحكم بشأن هذه الحالة. الاشكالية هنا ناتجة عن قراءة سياسية معزولة عن منظومة فكرية متماسكة يمكن ترتيبها بالشكل الآتي: "أنا لبناني متطوّع في خدمة الأمّة العربية وكلّنا منها. أنا عربي متطوّع في خدمة الانسانية وكلّنا منها." انّه راء كوني يسعى لتحقيق الوحدة الانسانية. انسانيته أسّست لمواقفه وآرائه القومية. دوائر الانتماء عنده في المستوى الأفهومي متّصلة ولا يشوبها أيّ ارتباك: الدائرة الصغرى تحدّد انتماءه الوطني اللبناني/السوري، الدائرة الوسطى تحدّد انتماءه القومي العربي، الدائرة الكبرى تحدّد انتماءه الكوني الانساني. وهذا ما ينفي عن الريحاني ارتباكه حول مفهومي القومية والوحدة. فاقترابه جزئياً من رؤية الحزب السوري القومي الاجتماعي لـ "الأمة السورية" مردّه الى تأثير ثقافة البيئة السورية في تكوين العقل النهضوي التحرّري لدى معظم النخب المستنيرة من لبنانيين وسوريين خصوصاً المسيحيين منهم أبناء المهاجر الأميركية حيث أنشأوا المنظمات السياسية التي منها: " مجتمع سورية الحرّة " 1915 و " حزب سورية الجديدة 1926
هذا الإقتراب لا يخفّف من ارتباطه بالعروبة من باب اللغة والجغرافيا والتاريخ والجنس والتراث والأمجاد والعادات. أسقط فقط العنصر الديني. أسقط العنصر الديني لأنّ عروبته عروبة علمانية واضحة في " قومياته " حيث نقع على دعوة صريحة الى علمنة الفكر وعلمنة التعليم وعلمنة السياسة وحيث يؤكّد أنّ التحزّب الديني هو حجر العثرة في سبيل الوحدة القومية. يقول: "في التفكّك الطائفي تحقيق الآمال القومية."
الوحدة القومية كثيراً ما ترد عنده بمعنى وحدة سورية ولبنان:
"أنا سوري أولاً، ولبناني ثانياً... أنا سوري أنشد الوحدة القومية الجغرافية السياسية. أنا سوري مسقط رأسي لبنان، وأحترم مصدر لغتي العرب... أنا سوري لا ينسى نهضة العرب على الأتراك ومن شارك بها واستبسل في سبيلها من السوريين واللبنانيين".
سوريته تتقدّم على لبنانيته من دون أن تلغيها وهي تمتدّ في العروبة من دون أن تلغي نفسها. تفكيره السياسي يتجاوز حدود الأقطار والقوميات الحصرية أو الهويات الفرعية فحديثه عن سوريا أو عن لبنان فضاء ثقافي رحب يتّسع ليشمل الوطن العربي بأسره.
لكن فكر الريحاني، في المحصلة، يعلن بوضوح التزامه للقومية العربية مع تغير الأوضاع السياسية بالمنطقة العربية. وهذا دليل عدم الارتباك في مفهومه للقومية فمفهومه لها مرتبط بحركة التاريخ. الريحاني مفكّر يجاري الوقائع وليس منظّراً ايديولوجياً يحاكي الحقائق المطلقة أو المثبتة في مراجعها الأصلية. انماز الفكر السياسي والقومي عنده بواقعيته وتاريخانيته. الاعيان عنده يتقدّم على الاذهان شأنه في ذلك شأن المفكّرين غير التجريديين. لم يكن أمين الريحاني صاحب أطاريح ومواقف فكرية مجرّدة. آراؤه ومواقفه لا تفهم الا في موقعيتها زماناً ومكاناً ومن خلالها يتّضح لقارئه سياق تفكيره السياسي العام.
فكره يجاري المتغيّرات فالمفاهيم لديه تبني نفسها ربطاً بالوقائع فالريحاني ليس مدرسياً اسكولاستياً بالمعنى الفلسفي للكلمة وليس صاحب نظرية سياسية دوغماتية أو ايديولوجية أو عقدية شمولية ومغلقة.
- في الخلط بين الأمة السورية والأمة العربية:
إنّ الشخصية بالمعنى الفكري ليست بنية ثابتة أحادية البعد بل متحوّلة ومتعدّدة الأبعاد. ما يشهد لصحّة هذه المقولة كلام الريحاني نفسه وهو الآتي: انّني لبناني المولد عربيّ اللسان والقومية وقد يكون في عروقي دم فينيقي أو كنعاني أو آرامي أو كلداني فاذا كان قلبي في لبنان فروحي في البلاد العربية." الهويات ليست بنى ثابتة في التاريخ بل متحوّلة..
- في اشكالية العلاقة بين الوطني والقومي أو القطري والقومي
الوطن العربي والقومية العربية والوحدة العربية تشكّل الاطار المرجعي لتوجيه السياسات القطرية.
"إن التضامن الذي هو شرط تحقق الوحدة، لا يقوم بغير الشعور القومي، والتربية القومية، فتصبح الوطنية الإقليمية ذات قلب عربي نابض، وصوت عربي صادق، وروح عربية شاملة." هنا البعد القطري يمتدّ في البعد القومي ليغنيه والبعد القومي يمتدّ في البعد القطري للفعل نفسه فهما يتكاملان ولا يتلاغيان والضامن في رأي الريحاني صيغة الدولة العربية الاتحادية حيث تكون الوطنية كما القومية رابطاً بين العرب معبّراً عن الشعور بالانتماء الى الأمّة: "انّني أغار يا اخواني اللبنانيين على مصلحة لبنان كما تغارون وأجاهد في سبيله كما تجاهدون الاّ أنّني أرى حدوداً أوسع من الحدود التي ترون.."
وفي مواضع كثيرة يؤكّد ايمانه العميق بتكامل حلقات الانتماء لدى المواطن العربي:
سيعتز اللبناني بسوريته، فبعروبته، كما يعتز السوري بلبنانيته العربية، وكما يعتز العراقي والفلسطيني والنجدي بأوطانهم الصغيرة وبوطنهم العربي الأكبر.
هذه هي خلاصة تفكيره ودليل انتمائه القومي الحضاري.