إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
عناصر المجتمع الفلسفية
1
تحليل الأفكار لا يتم بِمَعْزِل عن حاجةِ الفرد إلى الانتماء ، وحِرْصِه على تأكيد الذات ، فالانتماءُ يَمنح الأفكارَ شرعيتها الوجودية ، ومَدَاها الأخلاقي ، ومَجَالها الحَيَوي . وتأكيدُ الذات يمنح الأفكارَ القُدرةَ على التعبير عن ذاتها ، وتحقيق التوازن بين الخيال والواقع ، وإنشاء منظومة من التطبيقات الإبداعية على الأرض . وهذا يعني أن الأفكار مُجتمع مركزي شديد الاستقطاب ، يقوم على سياسة المحاور العقلانية التي تتوازى معَ الظواهر الثقافية، وتتقاطع معَ التجارب الاجتماعية . وبما أن الأفكار مُجتمع متكامل قائم بذاته ، فلا بُد أن يُنتج علاقات اجتماعية خاصَّة به . وإذا كانت الأفكارُ نَتَاج التفكير المُتكرِّر والتَّأمُّل العميق ، فإنَّ العلاقات الاجتماعية نَتَاج عملية التَّوليد المُستمر للأفكار ، التي تُؤَسِّس سُلطةَ المعرفة في بُنية المُجتمع الإنساني . وهذه السُّلطة _ بما تَملكه مِن آلِيَّات وأدوات _ قادرةٌ على تحويل الإفرازات الذهنية إلى سلوكيات عمليَّة ، ونقل الوَعْي الإنساني من المَبنى ( الشكل ) إلى المَعنى ( الجَوهر ) ، وعِندئذ يُصبح الخيالُ الهُلامي واقعًا مَحسوسًا ، وهذا يُساهم في بَلْوَرة شخصية الفرد الذاتية ، وتَكوينِ سُلطة المجتمع الاعتبارية . وكُل مُجتمع يَعرِف مَسَارَه ويُدرِك مَصِيرَه ، يَستمد قُوَّتَه الشرعية مِن سُلْطَتَين في آنٍ معًا : الوجود والمعرفة . وهاتان السُّلطتان تُحرِّران رُوحَ الوَعْي مِن جَسَد المنظومة الاستهلاكيَّة الماديَّة ، من أجل ضمان الانتقال السَّلِس للأفكار مِن الذهن المُجرَّد إلى الوجود المُحقَّق . وانتقالُ الأفكار يُمثِّل _ في واقع الأمر _ رحلةَ المجتمع من جسد اللامعنى في الفراغ إلى تجسيد المعنى في الوجود .
2
كُلُّ عَلاقةٍ فِكرةٌ ، وكُلُّ فِكرةٍ سُلطةٌ . والمعرفةُ هي النَّوَاة المركزية بَيْن هاتَيْن القاعدتَيْن . وهذا يعني أنَّ الكَينونة الكامنة في جَوهر المُجتمع عبارة عن رِحلة وجودية مُستمرة لها خَط سَير يحتوي على معالم واضحة ، لكنَّها تُبدِّل مواضعَها، وهذه المعالم تُمثِّل عناصرَ المجتمع الفلسفية، وهي: العلاقة والفِكرة والسُّلطة والمعرفة . وحرف ( الواو ) يُفيد العَطْفَ ، ولا يُفيد الترتيبَ أو التعقيبَ . وبالتالي ، فهذه العناصر الأربعة تُبدِّل مواضعَها ، وتُغيِّر أماكنَها ، ولَيس بالضَّرورة أن يَأتيَ كُل عُنصر بَعْد الآخَر . وسبب عدم الثبات يَعُود إلى أنَّ قيمة المعرفة نِسْبِيَّة ، ولَيست مُطْلَقَةً . وكُل أمر نِسبي هو مُتغيِّر ومُختلف باختلاف الزمان والمكان وطبيعة الناس . وهذه العناصر الأربعة يتمُّ صَهرها في بَوتقة المُجتمع ، فتُصبح جُزءًا مِن كِيَانه ، لا تَنفصل عن مَعَناه وحقيقة وجوده ، ولا يُمكن استرجاعها ، ولكن يُمكن مُلاحظة آثارها وتَتَبُّع تأثيرها .
3
الخيالُ هو بدايةُ الإبداع ، لكن الواقع سابق على الخيال ، لأنَّ الفرد يأخذ الخِبرات مِن عَناصر البيئة المُحيطة به ، ويكتسب التجارب من المُكوِّنات الحياتيَّة التي يَستطيع إدراكَها . والإنسانُ إذا لَم يُدرِك شيئًا بِحَوَاسِّه ، فلا يُمكن أن يتخيَّله . وكما أن الخيال هو بداية الإبداع ، فإن الواقع هو بداية الخيال ، لأنَّ وظيفة الخيال تغيير الواقع ، وليست وظيفة الواقع تغيير الخيال ، وهذا يُثبِت أن الخيال مهما كان مُتَحَرِّرًا مِن ضُغوطات الأحداث اليوميَّة ، فهو تابع للواقع بشكل أوْ بآخَر . والخيال هو الوسيلة المعرفية ، والواقع هو الغاية الوجودية . وكما أنَّ المِلْح إذا ذابَ في الماء ، يُصبح جُزءًا مِن ماهيَّة الماء ، كذلك الخيال إذا ذاب في المجتمع ، يُصبح جُزءًا مِن حقيقة المجتمع الواقعية ، ولا يُمكن الفصل بين الخيال والواقع ، وإذا أفلتَ الشيءُ من سيطرة الفرد ، لا يُمكن استرجاعه ، أوْ إعادته إلى حالته الأُولَى .
4
قُوَّةُ الخيال تتجلَّى في تَحويل الكَينونة الكامنة في جَوهر المُجتمع إلى كِيان إنساني مُتجدِّد ، يشتمل على أحلامِ الماضي، وأبعادِه الرمزية الحاملة للأفكار، وتَجَلِّياته في تطبيقات الحاضر المُعاش . وبعبارة أُخرى ، إنَّ مُهمة الخيال هي استعادة الحُلْم مِن الماضي، ومنع الفرد مِن أن يعيش الحاضرَ في الماضي ، لكي لا تُصبح الحياةُ التي لا تتكرَّر عبارة عن ماضٍ يتكرَّر . وإذا تجذَّرت الأفكارُ في حياة الفرد ، فإنَّه سيتأمَّل في ذاته ، للخُروج مِن ذاته المُحَاصَرَة بحُدود الزمان والمكان ، من أجل اقتحام المُستقبل بثقة وجُرأة. والتأمُّلُ في الذات ضروريٌّ للغاية ، لأنَّه الوسيلة لتحويل الألم الاجتماعي إلى لَذَّة فكرية، وهذا يمنع حُدوث اصطدام بين أحلام الفرد وطُموحات الجماعة ، فيجد الفردُ ذَاتَه ، ويصل إلى حالة الإشباع، وتجد الجماعةُ طريقَها ، وتصل إلى حالة الاكتفاء . والاتِّزانُ الاجتماعي يقوم على تقديرِ الإشباعِ الفردي ، وتحقيقِ الاكتفاء الجَمَاعي ، وتطبيقِ القِيَم الأخلاقية في الشعور والسُّلوك ، اللذَيْن يُساهمان في تكوين شخصية الفرد ، ظاهريًّا وباطنيًّا . ويُمكن تعريف الاتِّزان الاجتماعي بأنَّه إنشاء علاقات اجتماعية تقوم على التَّوفيق بين الأفكار المُؤثِّرة في الحياة الفردية والجماعية ، وهي الأفكار السُّلوكية والأفكار النَّفْسِيَّة .