علي الصراف يكتب:
معركة الوقت والإصلاح في الكويت
أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد رجل ورع وتقي. ولكن مشكلات الكويت لا ورع فيها ولا تقوى. وإلا ما تحول حزب الله إلى عقدة من عقد الحياة السياسية داخل البلاد، وعقدة أخرى في العلاقات مع السعودية؛ وإلا ما تحولت قضايا الإصلاح إلى صداع وطني دائم.
حزب الله منظمة إرهابية بعرف كل دول الخليج، إلا في الكويت. وبرغم أن الكويت سارعت إلى التضامن مع السعودية في الأزمة مع لبنان، إلا أن إطلاق سراح عناصر “خلية العبدلي” بعث برسالة مضادة، تقول: يمكن حتى لأبشع أنواع الأعمال الإرهابية، أن ينجو من العقاب، وأن تُفتح معه صفحة للتسامح.
وكان من عجائب المفارقات أن ألقت السلطات، عشية العفو، على خلية أخرى لجمع التبرعات لحزب الله في لبنان، ولتجنيد مقاتلين يذهبون إلى سوريا تحت راية حسن نصرالله.
هناك ما يبرر الاعتقاد بأن الشيخ مشعل الأحمد ولي العهد، بما يتوفر له من صلاحيات الآن، يستطيع أن يشق الطريق لمعالجة الأزمتين معا: الإصلاح السياسي، وخطر الإسلام السياسي بتياريه الشيعي والسني.
يحتاج الأمر إلى فهم لطبيعة الاختلالات البنيوية في البلاد، أولا، ثم لموقعها الإقليمي.
تبدو الكويت بالنسبة إلى تياري الإسلام السياسي، الشيعي والسني، وكأنها بطن رخو، يسهل التمدد فيه، بل ويسهل تهديده، وزعزعة استقراره، بل وحتى هدمه، أو إلحاقه بإيران، ضمنيا على الأقل.
الكويت التي تبدو لهذين التيارين وكأنها كيان هش، هي التي جعلت من نفسها كذلك، بعجزها عن الإصلاح.
في وقت من الأوقات، قدمت شخصيتان أكاديميتان معروفتان هما عبدالله النفيسي وعبيد الوسمي ما صار يُعرف باسم “وثيقة الكويت” إلى نائب الأمير، في ذلك الوقت، الشيخ نواف الأحمد.
الإصغاء للنخبة الوطنية، لا للطامعين بالنفوذ، ولا لأهل الفساد من داخل الأسرة أو خارجها، هو الشيء المُلحّ. وأصواتها لا يصح أن تبقى صرخة في واد، لأن ما يليها سيكون نفخة في رماد
هذه الوثيقة دعت، من بين ما دعت، إلى محاربة الفساد، وإعادة تشكيل السلطة القضائية، والتوافق على نظام انتخابي انتقالي جديد، ووضع حلول لأزمات البلاد الاقتصادية، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، والعفو الشامل ليكون بمثابة إعلان عن بدء عهد جديد.
العفو الذي أصدره الأمير نواف الأحمد، كان بداية جيدة، إلا أنها سبقت باقي الترتيبات، مما يشير إلى أن صحة ذلك الرجل الورع لم تسعفه للنظر في تغييرات تبلغ في أهميتها مستوى الثورة لردم كل الفجوات التي تُبقي البلاد عرضة للاضطرابات والنزاعات السياسية، وتجعل “حبلها على الغارب”، لترعى إبلها حيثما تشاء.
الشيخ مشعل يمكنه أن ينهض بالمسؤولية ليُعيد الخِطام إلى موضعه. وهو يمتلك الآن ما يكفيه من الصلاحيات، لكي يدخل في نقاش عميق مع النخبة الكويتية المتنورة التي يمكنها أن تساعده في قيادة مسارات الإصلاح.
الفساد، الذي يبدو كلمة عامة، يعرف الكويتيون من أين تمتد فروعه، فإن لم يمكن ملاحقة الذين أثروا على حساب البلاد في الماضي، فإن صفحة العفو الشامل قد تكفي، لطيهم معها، إذا ما أمكن وضع نهاية لكل مظهر من مظاهر الفساد، من بعد ذلك. وهو ما يبرر الحاجة إلى إصلاح مؤسسات القضاء، وإلى إقامة هيئة وطنية لمكافحة الفساد، يمكنها أن تطال كل المتهمين به، حتى ولو كانوا جزءا من الأسرة الحاكمة.
والفسادُ أصلٌ لكل خراب. وهو إحدى أهم التعلات التي يركن إليها الذين لا يريدون للكويت إلا الخراب، سواء تحت راية حزب الله، أو حزب الإخوان المسلمين.
“وثيقة الكويت” ليست مُغنية بالضرورة عن كل نقاش. لقد أضاعت الكويت ما يقرب من نصف قرن وهي تائهة بين النوايا الحسنة والتطبيقات الفاسدة، إلا أن النخبة الوطنية بوسعها أن تخوض في عصف ذهني للنظر في كل مفصل من مفاصل الإصلاح المطلوب وأسسه وضماناته وغاياته وسبل المحافظة عليه، لجعل الاستقرار مستداما لما بقي من هذا القرن على الأقل.
هناك أزمة اقتصادية تزيد في ثقل موازين المأزق، حيث تستثمر المئات من المليارات خارج مجالات التنمية الداخلية. كما أن المواجهات السياسية التي أسقطت العشرات من الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، قد حان الوقت لها أن تقف عند حد، بما يجعل من البرلمان شريكا حقيقيا في إدارة البلاد. ولكن ليس بالضرورة هذا البرلمان بالذات. ذلك لأن البلاد بحاجة إلى رؤية سياسية قائمة على ركائز جديدة، لا تعتمد على مجرد “الانتخابات” لكي تتسلل منها عصابات الإسلام السياسي.
المطلوب، برلمان يتوافق مع رؤية الإصلاح، لا برلمانا هو بمثابة استمرار للأزمة.
هذه الرؤية يتعين أن تكون جزءا من ذلك العصف الذهني الذي تخوضه النخبة تحت قيادة ولي العهد.
أحد الأصوات الوطنية البارزة، ناصر الدويلة، دعا إلى تصنيف حزب الله كـ“منظمة إرهابية”، قائلا إنه ما لم تصنف حكومة الكويت حزب الله اللبناني كمنظمة إرهابية، “فإن مسلسل سقوط أبنائنا في فخ التعامل مع الحزب من باب محاربة إسرائيل، سوف يستمر”. ولكنه دعا الكويتيين، من السنة أو الشيعة إلى عدم الانتماء لأي حزب أو منظمة أجنبية “مهما اتفقنا معها في المبادئ والأفكار”.
الصريح، هو أن إصلاحات قصيرة اللحاف لن توفر المخارج الكافية من دوامة الأزمات. والتعثر هو الذي يوفر لتيارات الإسلام السياسي أن تستضعف الكويت، لتحولها إلى مجال حيوي يدور في فلك إيران أو فلك تنظيم الإخوان. وكلاهما فلك واحد في النهاية، يدفع بالكويت خارج مدارها الوطني الطبيعي، وبكل تأكيد، خارج مدارها الخليجي.
الشيخ مشعل لا يمتلك الصلاحيات والوقت للخوض في نهضة إصلاحية شاملة فحسب، ولكنه يمتلك الدعم الخليجي أيضا. وعلاقاته الشخصية بقادة السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعمان تجعله موضع ثقة، بأنه يستطيع أن يعيد البلاد لتدور في فلكها الصحيح.
الإصغاء للنخبة الوطنية، لا للطامعين بالنفوذ، ولا لأهل الفساد من داخل الأسرة أو خارجها، هو الشيء المُلحّ. وأصواتها لا يصح أن تبقى صرخة في واد، لأن ما يليها سيكون نفخة في رماد.
وما من أحد إلا ويعرف أن الإصلاح يتطلب مقدارا هائلا من الجرأة على الباطل، وأوجه الباطل في الاضطراب الراهن كثيرة، مع الأسف.
الاختلالات البنيوية التي تعانيها الكويت ليست مستحيلة على الإصلاح. ولكن انتظارا يدوم عشر سنوات أخرى، سوف لن يُبقي في البلاد ما يمكن إصلاحه.
الكويت يمكن أن تنهار بسهولة إذا ما تداعت واردات النفط. لا توجد حقيقة أكثر وضوحا من ذلك. والوقت بين الكويت وبين هذه الحقيقة ليس بعيدا على الإطلاق.