د. ساسين عساف يكتب:
المشروع النهضوي العربي وجيل الشباب
منذ ثمانينيات القرن الماضي والعرب يمرّون في ظروف تاريخية كارثية يتعرّضون فيها لحروب من خارج وفتن من داخل قتلت أو تكاد أحلامهم في إنجاز وحدتهم. من نتائج تلك الحروب والفتن مزيد من الإحتلالات، مزيد من الإنخراط في "السلم الإسرائيلي"، مزيد من الإستبداد والفساد والتبعية والتخلّف. إزاء هذا الواقع بادر مركز دراسات الوحدة العربية إلى صياغة مشروع إنقاذي بعنوان "المشروع النهضوي العربي" كما عمد عدد غير قليل من ملتزمي هذا المشروع إلى إعداد دراسات موازية له، وتلتقي معه في العناوين والأهداف.
في سياق ما كتب حول فكرة المشروع وعناصره الستّة (الوحدة، الإستقلال الوطني، التنمية المستقلّة، الديموقراطية، العدالة الإجتماعية، التجدّد الحضاري) كان لي إسهام جسّدته في كتابين: "مشروع النهوض العربي، رؤية ثقافية" و "مشروع النهوض العربي، رؤية وحدوية." وها أنا اليوم بصدد إنهاء الكتاب الثالث بعنوان: "مشروع النهوض العربي، رؤية في التجدّد الحضاري."
المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب والشخصيات العربية، جميعها تبنّى المشروع النهضوي العربي وشكّل مرجعيته الفكرية والنضالية، ومع ذلك بقي المشروع رهن الصياغات ولم يتحوّل إلى حركة لها تأثيرها الفعلي التغييري في حركة الواقع. من هنا نرى إلى دور الشباب العربي، الجيل الجديد، الثوري في تحرير المشروع من الصياغة النظرية وتحويله إلى قوّة واقعية قادرة على صياغة المستقبل العربي.
رؤيتنا إلى هذا الدور تستبطن السؤال التالي: أين الشباب العربي، الجيل الثوري الجديد، من ثقافة هذا المشروع؟ يستشفّ الجواب من حاجة الشباب إلى فكر قومي ثوري أو ثقافة قومية ثورية إسترشادية (لا توجيهية) لكي تتكوّن لديهم ذاتياً مكنة تطبيق المشروع الذي يوفّر لهم هذه الثقافة ويفتح أمامهم منصّات الحوار والتواصل والتفاعل وتبادل الخبرات والتجريب معاً. هذا وجيل الشباب في الأقطار العربية كافة منكشفون فكرياً وثقافياً ومعرّضون لتشوّهات يحدثها الإختراق الثقافي يأتيهم من غرب وشرق ومن داخل (بخاصّة ظواهر التوحّش والغلوّ في ممارسات ترتكب باسم الدين) فالمشروع يعزّز ثقافتهم القومية ويشدّهم إلى وعي تاريخي بالهوية وإلى مصير تاريخي واحد، وهو يشكّل مشروعهم النضالي لسنوات لا بل لعقود كي تبقى العروبة فكرة حيّة وحدوية وتحريرية وديموقراطية وتنموية وتجديدية في سياق التصدّي لأعداء الأمّة من جهة والسعي إلى بناء دول وطنية حديثة تمهّد لقيام دولة الوحدة والعدالة من جهة أخرى.
هكذا تتوافر لجيل الشباب الأهلية الموضوعية والمكنة الفكرية والنضالية والأطر التنظيمية الكافية للقيام بدور وازن إلى جانب الأجيال السابقة في تحقيق هذا المشروع، فضلاً عن الخبرات التي اكتسبها من "ثورات الربيع العربي" يوم كانت بين يديه وقبل أن تسلب منه وتنحرها "الثورات المضادّة." الثورات يصنعها المثاليون الأنقياء ويستغلّها الوصوليون الإنتهازيون.
ثورات الشباب النقي أبرزت قيادات ثورية افتقرت إلى منهج وحدوي ثوري ولكنها تمكّنت من رسم خطّ وطني قومي جامع شكّل الرهان في لحظات ثورية معيّنة على تعميم الثورة على الأقطار العربية كافة. عند هذا الخطّ إلتقى الوطنيون الوحدويون ولم تمنحهم "الثورات المضادّة" فرصة تعميقه وتوسيع قاعدة شرعيّته الثورية التمثيلية، لا الإنقلابية، داخل كل قطر وفي الأقطار مجتمعة في معركة التحرّر من الإستبداد والتبعية والفساد.
وثمّة إعتبارات خاصة أسهمت في إضعاف هذه الشرعية منها غياب القيادة الموحّدة ما دفع في اتّجاه المزيد من التشرذم والإنقسام فضلاً عن إرتباط بعض القيادات المحسوبة على المجتمع المدني بتوجيهات خارجية وتمويل خارجي ما أفقدها صدقيّتها وضاعف من التنافس فيما بينها.
بالرغم من كلّ الخيبات التي أحدثتها الثورات الشبابية يبقى الرهان معقوداً على دور رئيس لجيل الشباب الثوري المتجدّد في تحقيق المشروع النهضوي العربي فثمّة تجارب قومية شبابية ناجحة، في طليعتها مخيّم الشباب القومي العربي الذي يعقد دورات سنوية يجمع شبّاناً وشابّات من مختلف الأقطار يعيشون معاً الوحدة في النضال وفي الأفكار والإنتظارات.
ومن حيثيات الرهان على هذا الدور وفرة القوى العربية الشبابية في كلّ الأقطار التي تستجيب لنداءات التضامن مع فلسطين ولمواجهة الإحتلالات الأجنبية ولدعم أشكال المقاومات كافة والتشبّث بالهوية القومية هوية عربية جامعة من المحيط إلى الخليج.
لكي يكون الرهان مضمون النتائج على الجيل الشبابي المتجدّد أن يسترشد بالمشروع النهضوي العربي، نتاجاً فكرياً وسبييلاً نضالياً، يمكّنه من صناعة المستقبل العربي وقيادة الأمّة وحماية ثوابتها.
ماذا يقدّم المشروع لهذا الجيل؟
- يؤسّس لأفكار ورؤى وتطلعات وآليات عمل تساعد الشباب على إتمام ثوراتتهم بقليل من النواقص والخيبات.
- يوفّر للشباب مادة تثقيفية في قراءة التاريخ والحاضر بعقل المستقبل فهو صياغة عقول عربية قومية مجرّبة.
- يزوّد الشباب، من خلال عناصره الستّة، بسلاح الوعي التاريخي لمواجهة المشاريع المضادّة المعدّة للوطن العربي، كالمشروع التاريخي الأميركي/الصهيوني، أو لحسن التعامل مع المشاريع الإقليمية الأخرى كالمشروع الإيراني والمشروع التركي حيث يضع الشباب فوق أرض صلبة إمّا للمواجهة وإمّا لإجادة التعامل بما يضمن مصالح الوطن العربي.
- يضع الشباب على سويّة تاريخية واحدة مع أجيال الشعوب الأخرى، عدوّة أو صديقة، ذات المشاريع المضادّة الطامعة والطامحة، الطامعة بالأمّة والطامحة إلى مواقع نفوذ فيها. والقاعدة: مقارعة مشروع بمشروع.
- يقدّم للشباب الوعي المعرفي بالذات وبالآخر.. والوعي سلطة معرفية لها الحسم في مقارعة المشاريع. المنازلة صعبة على كلّ الأصعدة، والغلبة فيها لمن يمتلك المشروع الأشدّ صلابة واجتذاباً للمعنيين به.
- يدعو الشباب إلى التعاون مع سائر قوى الأمّة لتشكييل الكتلة التاريخية التي بدونها لن يكون المشروع قابلاً للحياة والتطبيق. التعاضد الثوري قوّة حاسمة في المنازلات المصيرية بين الشعوب..
ما يؤكّد تفاعل الشباب إيجاباً مع ما يقدّمه لهم المشروع النهضوي العربي ثلاثة مؤشّرات لها ارتباط بعناصره:
- الوحدة العربية
رمزيّة أن يرفع الشباب المصري صور الرئيس جمال عبد الناصر، عنوان الوحدتين المصرية والعربية، في ميادين تجمّعاتهم والمظاهرات فدليل واضح على احترامهم للرموز التاريخية وصون حرمتها وإنجازها، وتالياً، على التوجّه الوحدوي الراسخ في مقاصدهم وبرامجهم واستشعارهم لأهمية الإلتحام العضوي بين الأجيال العربية الثورية على امتداد الوطن العربي وساحات أقطاره. لقد أكّد الشباب الترابط العضوي بين الأقطار، الترابط السياسي والإجتماعي والنفسي والحضاري والعملي، وأكّدوا تالياً أنّ فكرة الأمّة العربية قابلة للتحقّق وأنّ الدعوة إلى وحدتها واقعية وفق قواعد جديدة علمية وعصرية، وقواعد حقوقية ديموقراطية تحترم حرية المواطن وكرامته الشخصية في ظلّ دولة الوحدة التي ليس لها إلاّ أن تكون دولة الحق، وقواعد حيوية ترتقي بالوعي السياسي القومي وتلازم دينامية التطوّر في الأفكار والمعارف والعلوم والقيم والتجدّد الحضاري.
- التجدّد الحضاري
أظهر الشباب قدرتهم على كسر حلقات التخلّف بالعلم، بالتفوّق العلمي في مواجهة السلطات العنفية، وأظهروا تالياً ضعف سلطة السلاح والأمن المتوحّش في مواجهة شباب عقلاني حضاري يعي هويته القومية الحضارية بانميازاتها القيمية الأخلاقية وأبعادها الإنسانية، ويعي تالياً عمق انتمائه إلى جغرافيا سياسية واحدة وفضاء ثقافي/حضاري واحد.
- الديموقراطية
أدرك الشباب عمق الأزمات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية وتداعياتها السلبية على كرامة المواطن العربي وحرياته ومنظومات قيمه وأخلاقياته، وأدركوا تالياً أنّ الثورة هي السبيل الأوحد للخروج منها بمنهج سلمي ديموقراطي تلقائي من خلال مسيرات واعتصامات شعبية منظّمة وسلمية أسقطت فرضية مغلوطة، فرضية الإستثناء العربي من التحوّل الديموقراطي السلمي..
بناء عليه،
أنحاز موضوعياً إلى مكنة الشباب العربي الثوري المتجدّد من الإسهام الفعلي في تطبيق المشروع النهضوي العربي.