علي الصراف يكتب:
ماكرون في الخليج.. لبيع ماذا؟
لم تثبت فرنسا لنفسها، دع عنك دول الخليج، أنها قوة يُعتد بها.
ذات يوم صحا الرئيس إيمانويل ماكرون من النوم على تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، فلم يجد ما يفعله سوى التعبير عن الغضب. وابتلع من بعد ذلك انهيار صفقة الغواصات مع أستراليا، بخسارة تقدر بنحو 90 مليار دولار.
بدت فرنسا في ذلك الحين العضو الأقل أهمية في الحلف الأطلسي بالنسبة إلى التوازنات الاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك في المواجهة مع الصين.
والمسألة هناك، ليست بالضرورة مسألة حرب محتملة، أو حتى حرب باردة ضد الصين، ولكنها مسألة نفوذ في كل منطقة جنوب آسيا يمتد من تايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية إلى الهند وباكستان، بل وحتى إيران أيضا، بما يشمل حزمة من الاقتصادات الناشئة في ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام والفلبين وغيرها.
بمعنى آخر، هذا قطاع من العالم قال تحالف “أوكوس” إن فرنسا باتت بعيدة عنه، وإنها لن تفرض نفوذا رئيسيا هناك.
عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020، وضع الرئيس ماكرون عينه على لبنان، لاعتبارات عاطفية، وتاريخية طبعا، وقدم “مبادرة إنقاذ” استقطبت القبول، وأنارت بارقة أمل. إلا أنه فشل في أن يحول زخم المبادرة إلى تحرك فعلي لمحاصرة الذين يقفون وراء مآسي لبنان. ومن أسبوع إلى آخر، ومن شهر إلى آخر، ماتت المبادرة، وفرض “الثنائي الشيعي” ترتيباته الإجبارية الخاصة، بإقامة حكومة شلل.
◄ ماكرون يريد أن يُقدم نفسه للناخبين الفرنسيين على أنه لاعب يستطيع أن يجني الفوائد لاقتصاد فرنسا، وأن بلاده لم تخسر من صفقة الغواصات الأسترالية
استخدم هذا الثنائي كل الأحابيل اللغوية الإيرانية، لكي يقف ضد تنفيذ المبادرة، بينما ظل يقول إنه يدعمها، حتى ضاع نحو عام كامل من انتظار تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين يقودها سعد الحريري. وبدلا من أن يتخذ ماكرون موقفا صارما حيال تعطيل، أو قتل، مبادرته، فقد مال إلى التواطؤ مع لغة النفاق تلك. أكثر من ذلك، فقد تفاوض مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لأجل تسهيل إقامة حكومة نجيب ميقاتي. فأعطته إيران ما يستحق: حكومة يمتلك فيها “الثنائي الشيعي” ثلثا معطلا. وليست حكومة اختصاصيين إلا صوريا فحسب، ولا تمتلك القدرة على تنفيذ أي إصلاحات، ولا تحترم سلطات القضاء، بل وتعجز عن عقد اجتماعات.
ما لم يكن ذلك بمثابة صفعة على الوجه، فلن يعرف أحد ما هي الصفعة على الوجه.
التفاوض مع إيران على حكومة بلد تملك فرنسا فيها نفوذا تاريخيا، وارتباطات عميقة بنخبتها ومؤسساتها وبقطاع واسع للغاية من شعبها، لم يكن خيانة لتلك الروابط بقدر ما كان خيانة للنفس؛ خيانة لمكانة فرنسا، وإثباتا صريحا بأنها لم تعد تلك القوة الدولية التي يجدر الثقة بها أو الاعتماد عليها.
يذهب ماكرون في جولة خليجية بين السعودية والإمارات وقطر. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: من أجل أن يبيع ماذا؟
ما هي تلك الصورة التي يجدر الثقة بأنها لم تتحول إلى حطام؟
ماكرون سبق جولته الخليجية بمحادثات هاتفية مع الرئيس الإيراني استغرقت ساعة ونصف الساعة، قيل إنها تناولت المباحثات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي في فيينا. ولكن الحقيقة هي أن ماكرون، بينما يريد أن يبيع صفقات أسلحة ومحطات طاقة نووية، فإنه يتعامل مع إيران كطرف له الأسبقية في التشاور. وما ذلك إلا وضع مخز بالنسبة إلى القادة الخليجيين.
نعم، يمكنهم أن يوقعوا عقودا تجارية مع فرنسا، كأي دولة أخرى تمتلك تقنيات متقدمة، إلا أنهم لا يستطيعون النظر إلى فرنسا كحليف، ولا حتى كقوة دولية عظمى جديرة بالاعتبار. لن يستخدموا معه لغة النفاق الإيرانية التي ربما كانت تروق له أكثر، إلا أنهم لا يستطيعون أن يعولوا عليه في أمنهم، ولا في بناء توازنات استراتيجية جديدة.
روسيا أفضل وضعا من فرنسا في هذا الجانب، رغم بُعد الشق بينها وبين دول الخليج. على الأقل لأن الوصول إلى “المياه الدافئة” طموح استراتيجي تاريخي بالنسبة إلى موسكو، يستحق أن يُبذل من أجله الكثير، بما في ذلك الضغط على إيران.
الرئيس ماكرون هو المسؤول عن هذا الوضع. النأي الفرنسي التقليدي عن قضايا المنطقة كان يُمكن أن يُفهم عندما كانت المصالح الكبرى تتوزع في بيئة مستقرة. ولكن الاضطرابات الاستراتيجية التي نشأت منذ أن أصبح العراق وسوريا ولبنان واليمن إقطاعيات تابعة لميليشيات إيران، كانت تتطلب المسارعة إلى لعب دور أكثر فاعلية.
الاختلالات التي تُسفر عن فراغات استراتيجية، لا بد أن تُملأ من جانب قوة ما، وإلا فاز بها آخرون.
◄ ماكرون فشل في أن يحول زخم المبادرة إلى تحرك فعلي لمحاصرة الذين يقفون وراء مآسي لبنان
هذا ما حصل في تلك الإقطاعيات. وفرنسا لم تُثبت لنفسها على الأقل أنها تمتلك الجرأة.
ذهب ماكرون إلى بغداد، ليس لكي يجد لفرنسا موطئ قدم بديل عما تنسحب الولايات المتحدة منه، وإنما ليقدم أرواق اعتماد بلاده مع الميليشيات التابعة لإيران.
ومنذ أن اختار التواطؤ مع الرئيس الإيراني على مصير لبنان، فقد بدا أن تلك القوة التي تمثلها فرنسا لم تعد تعني شيئا على الإطلاق، حتى عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن مناطق نفوذها التاريخية الخاصة.
الفشل الفرنسي في لبنان يكفي بحد ذاته ليكشف عما يمكن أن يعنيه دورها في أي مكان آخر.
هناك على أي حال بُعد شخصي. فالرئيس ماكرون يقف على أعتاب انتخابات رئاسية في أبريل المقبل. وهو يريد أن يُقدم نفسه للناخبين الفرنسيين على أنه لاعب يستطيع أن يجني الفوائد لاقتصاد فرنسا، وأن بلاده لم تخسر من صفقة الغواصات الأسترالية بمقدار ما يمكنها أن تكسبه من فرص أخرى. ولكن هذا غير صحيح قطعا.
لا يستطيع ماكرون أن يتجاهل أن صفقة طائرات رافال مع مصر كانت هي التي أنقذت صناعة هذه الطائرة. كما أن العلاقة بين مصر واليونان في مواجهة الأطماع التركية في شرق المتوسط وفرت لباريس فرصة ثانية لتكسب صفقة دفاعية كبرى مع اليونان. إلا أنه على ضفاف الخليج العربي، لم يتقدم إلا ليكشف عن العجز والفشل.
إنس لبنان. فهذا بلد بات مصيره معلقا بيد ميشال عون الذي يريد أن يبقى بعد انقضاء ولايته، وبيد حسن نصرالله الذي يبيع، ببلاش، نفطا إيرانيا لا تتجاوز قيمته 10 ملايين دولار، لكي يشتري فوزا في الانتخابات النيابية المقبلة. أي أن مصير لبنان لم يعد معلقا بيد فرنسا ولا بيد ماكرون إلا بخيوط وهمية وواهية. ماذا، إذن، يمكن لماكرون أن يبيع في الرياض وأبوظبي والدوحة؟