أحمد شحيمط يكتب لـ(اليوم الثامن):

بعيدا عن الأيديولوجيا

ليست الايديولوجيا سوى مجموعة من الأفكار والتمثلات والتصورات التي تعكس وعيا اجتماعيا ، تنم الكلمة عن رغبة الناس في تغيير أحوالهم وظروفهم الاقتصادية، وتعني ما ترسخ في المجتمعات من قيم مادية ولامادية ،كما تعني منظومة فكرية، ونسق من الأفكار المتشابكة التي تهدف نحو إرساء ثقافة معينة . فلا يخلو عصر منها، ولا يمكن نكرانها أو تفكيكها إلا بالبدائل الممكنة أو الاعتراف بنسبيتها. ترسم للعالم أفقا ممكنا للتغيير المنشود، وتعلن الايديولوجيا عن نهايتها عندما يلوح في الأفق ضوء ينير للشعوب طريقها نحو الحرية والتحرر، أو عندما ينشر العلم أنواره، وتهيمن العقلانية في التفكير، ويكون الاستدلال بالمنطق العلمي بعيدا عن الفكر الايديولوجي أحادي الرؤية . فلا فائدة أو خير في الأيديولوجيات المنغلقة، ولا يوجد هناك نهايات للفكر اليقيني الأحادي سوى ما نرسمه من آمال وتطلعات للمستقبل القريب والبعيد، انقسام العالم في الحرب الباردة بين المعسكر الشرق والغربي، والانقسام الحالي الذي يهدد السلم العالمي كل مرة نحو الحروب المدمرة جراء اختلاف الرؤى، وصراع الإرادات والمصالح هو أمر واقعي، صراع لا يؤسس للتعايش والالتقاء، يزيد الاحتقان ويسيطر الاندفاع .                                                                                             

بعيدا عن الايديولوجيا وسياسة العداء والاستقطاب تأتي الرياضة حتى تعيد للشعوب روحها، وتقلل من الاحتقان في توجيه الصراع من الحرب والتدمير نحو الصراع داخل الميادين، تنطفئ الحروب لمدة، وتخرس أصوات البنادق والمدافع. من الألعاب الاولمبية وشعلتها في عملية التقاء أممي واسع إلى كأس العالم، وما يرافقه من تصفيات قارية، إلى البطولات العالمية والمحلية. تلعب الرياضة الشعبية وخصوصا الجماعية منها وظائف مهمة في إذكاء روح المنافسة، والتقريب بين الشعوب والتعريف بثقافتها، تتلاشى أصوات المدافع، ويهدأ الصراع الأيديولوجي، ثم يتوارى صوت السياسي، ويختفي البعد الأيديولوجي لمدة من الزمن، وبالتالي تسود لغة رياضية مطبوعة بطابع الروح الرياضية . يتبدد التهديد والوعيد، وتطفو حماسة الجماهير، وتنتعش التجارة الخاصة بالملابس الرياضية، وينتقل الناس من دولة لأخرى في لغة واحدة ومشتركة، وهي التشجيع والتحفيز، كما يزداد حب الوطن وتطفو الوطنية، ولو استثمرت شعوبنا في الرياضة وفي الرأسمال البشري لكان خيرا من الانجرار والانقياد للحروب والصراعات . لو كانت شعوبنا تتغذى على التسامح والمنافسة من قلب الميادين لكان أفضل لنا من الصراعات الدموية، حروب ومغامرات غير محسوبة العواقب، ونتائج المغامرات الرياضية والصراع في الميادين يترك تأثيرا في العقليات ونموا في حس الممارسة .                                                                      

يكون الالتقاء في المشترك الإنساني أهم من الصراعات الضيقة، والتباري الشريف خير الوسائل في تحويل النزوع نحو القوة إلى نزوع آخر نحو التنافس الميداني، وهكذا نجد في الغرب التحول من مغامرات الحروب الضارية والعبور بالجيوش نحو غزو بلدان أخرى واستعمارها، وإطالة أمد الصراعات نحو المغامرات وروح المنافسة في مختلف أشكال الرياضة الفردية والجماعية، من مزايا التغير، التفنن أكثر في البنية التحتية من خلال بناء الملاعب الرياضية، والعناية بالأجيال من خلال مدارس للناشئة، هنا يتحقق الاستثمار في الرأسمال البشري، هنا نلمس إستراتيجية الدول الموجهة نحو فضاء أرحب للعب والمنافسة. فعلي سبيل المثال نصيب الولايات المتحدة الأمريكية والصين في الألعاب الاولمبية كبير جدا على مستوى النتائج، هذا يعني نجاح إستراتيجية هذه البلدان في تنمية المهارات الخاصة بالرياضيين، وإعدادهم الجيد للمنافسات الدولية، القوة هنا لا تقاس بكل ما هو مادي، بل كذلك بالمعنوي، ما تجلبه الرياضة من منافع ومكاسب، فعندما نعود للسياق التاريخي الذي تبلورت فيه الألعاب الاولمبية في القرن الثامن قبل الميلاد، كانت المنافسة قوية بين المدن اليونانية، تحل المنافسات الرياضية، وتتوقف معها كل أشكال الصراعات والحروب حتى نهاية هذه الألعاب، فرغم ما يقال عن الدافع الديني والاجتماعي لهذه الألعاب تكريما لآلهة اليونان، فإن الفكرة كانت مفيدة وايجابية في تطوير الألعاب وجعلها شاملة، مهرجان يقام بشكل منتظم، لإثبات جدارة اليونان في ألعاب معينة التي تشمل الرياضة بفروعها المتنوعة: كالمصارعة ورمي الرمح والقرص، ومسابقات الخيل وسباق العربات والجري. أصبحت هذه الألعاب اليوم مهرجان عالمي يلم شمل العالم في روح من الندية والمنافسة، منافسات محددة بميثاق، وتتخللها احتفالات ومراسيم من البداية إلى النهاية، واقع الألعاب اليوم تتسابق الدول في تنظيمها، وتمنح اللجنة الاولمبية الشرف لدولة بعينها إن كانت بالفعل تمتلك الشروط المادية وغير المادية في ذلك. فالجانب المكشوف اليوم من التفكير أن الرياضة والمسابقات الدولية تقاس دائما بالمستوى المالي والربح الاقتصادي الخاص بالمقاولات والشركات الراعية لذلك، لكن هناك جانب منسي ومغيب يتعلق الأمر بالنتائج المعنوية خصوصا في الالتقاء والتواصل، وتبادل الخبرات والثقافات. فالقول أننا في عالم متعدد القيم والكيانات، والرياضة تقوي من الأواصر، تنصهر فيها النزاعات، ويتم التذكير دائما بالروح الرياضية التي تسود اللعبة، انتشار وتعميم لهذه الروح وغرسها في الأجيال القادمة، والدفاع عن منطق يروم الوحدة وإذابة العداء. فالايدولوجيا تغذيها دائما دوافع سياسية واقتصادية، وهيمنة نوع من الأيديولوجيات، يعني تنميط العالم وفق نظام واحد، حتى في أوج الحرب الباردة، كان التنافس شريفا بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، في أفريقيا حيث سادت التوترات العرقية والسياسية بين القوميات المختلفة، عملت الرياضة على سدها أو على الأقل التقليل منها، حولت نظرة الناس نحو الشغف بالرياضة، واتجه الشباب للبحث عن النجومية في الغرب، كما نهجت هذه البلدان سياسة تنموية للعناية بالبنية التحتية، فكان نصيب إفريقيا تنظيم كأس العالم 2010 في جنوب إفريقيا .                        

بعيدا عن الأيديولوجيا والاستقطاب تأتي الرياضة بما تشتهيه الجماهير حتى ينتقل الصراع من السياسة إلى الميادين الرياضية، ولو كانت المدة الزمنية قصيرة للمنافسات، لكنها مهمة في التعبير عن الرأي وإثبات الذات، وكذلك تحويل العداء إلى منافسة شريفة في الميدان لمن يستحق، ولمن يملك القدرة والمهارة في اللعب النظيف. ففي كأس العرب المنظم حاليا في قطر، هناك حضور وازن لأغلب الدول العربية بغية التنافس والظفر بالكأس، زاد من وهج الكأس سنوات الانقطاع، ولما عادت المنافسات من جديد نسجت عنها الكثير من الأقوال وردود الأفعال، تارة ايجابية وتارة سلبية، كما ساهم الإعلام الجديد، وشبكات التواصل الاجتماعي في اللعب على أوتار العاطفي والقومي، لكنها  أصوات نشاز، متفرقة ومتناثرة، تلتف على السياسي والتاريخي، وتخرج الرياضة عن مسارها الصحيح وأهدافها النبيلة ، إنها تخلق أجواء من المشاحنات والصراعات الفكرية، والسجال بين الجماهير الواسعة، لكننا نعتقد أن القائمين على الشأن الرياضي والتنظيمي هناك، يدركون بالفعل الغاية من التنظيم . أولا إظهار القدرة في تنظيم مناسبات كبرى على الأراضي العربية، وثانيا إرسال رسائل للعالم من أجل القدوم للمتابعة المباشرة لمباريات كأس العالم، فهناك قوة في التدبير والتنظيم، التي تنم عن جودة البنية التحتية للملاعب القطرية في الاستعداد الجيد لكأس العالم، وهناك كذلك أحقية العرب في اللعب على هذه الملاعب قبل أن يلعب فيها الآخر البعيد، وأخيرا  يعتبر هذا العمل إنجازا كبيرا يدخل قطر للتاريخ، ويكسب الشرق الأوسط حلة جديدة عند تسويق الأفكار والقيم التي تعني ببساطة براعة الاستثمار في البنية التحية والرأسمال البشري، وأن المال الموجه لمثل هذه الغايات أحق من الحروب والصراعات .                                                            

تبدو النوايا معقولة لإنجاح المهمة بنجاح قبل الفرجة العالمية، التي تعني وفود العالم للمكان في اجتماع أممي، يعكس طبيعة اللعبة وشعبيتها، وما تمثله من قيمة في بث رسائل السلم والتعايش. ومن هنا نعتقد أن تنظيم كأس العرب في قطر مناسبة كبيرة من أجل التقاء العرب من جهة، ودعوة للتفكير في قيمة اللعبة ونتائجها في تعزيز الروح الرياضية من جهة ثانية، وما تتركه من نتائج حسنة على الشرق الأوسط، وعلى ميلاد الفكرة التي تجعل من اللعبة وسيلة للنهوض بالرياضة الفردية والجماعية، وضخ أموال واستثمارات في البنية التحتية، والاستثمار في العنصر البشري بعيدا عن لغة الحروب والصراعات ، وبعيدا عن الاحتقان الطائفي والمذهبي . الرياضة هنا تخلق مجالا للمنافسة بين الشعوب العربية، تعطي الانطباع للآخر بروح الأجواء السائدة في الميادين، تنقل صورة وردية عن الدولة والمدنية، صورة من فضاء الملاعب وخارجها، انطباعات عن الحياة النابضة، مناسبة تترك الفرصة للجماهير الواسعة في اكتشاف الأمكنة، كما ترسي اللعبة كذلك قدرة العالم العربي في تنظيم منافسات قارية وعالمية، لذلك نقول أن رهانات قطر على لعبة كرة القدم وبناء ملاعب عملاقة فكرة عملية، إنه استثمار لا بد أن يتكلل بنتائج بعيدة المدى، لا بد أن يرسخ هذا الفعل الإقبال على الرياضة وإعداد الأجيال للمنافسات العالمية، بعيدا عن الايديولوجيا والصراع السياسي والمذهبي، تؤدي لعبة كرة القدم وظيفة هامة تتعلق بتذويب التناقضات، وجعل الميدان حلبة للمنافسة من منطلق تحفيز الشباب للرياضة، وتوجيه التفكير نحو الصائب والعملي، أعتقد أن قطر نهجت سياسة برغماتية مفيدة عندما أمنت التنمية لشعبها، ورفعت من قيمة الإنسان في التجديد والابتكار بسواعد أهلها، مشاريع هامة بدعم وتضحيات مختلف الأطر والكفاءات التي استوطنت البلد واستقرت فيه، ومن العمالة الأجنبية، عمل الكل على تحويل التراب في وقت محدد بطاقات ومؤهلات تنم عن قدرة الشرق العربي في بناء الحضارة من جديد . فهم الناس العبرة من التاريخ وقاموا بتوجيه الفكر نحو الصائب والمفيد .