د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

عندما تتبخر أحلام الفقراء؟!!

عبر التاريخ كان الفقراء هم صانعو السياسة بحق، إلا أنهم في كل مرة كانوا يُخدعون من قبل الأغنياء والساسة الذين ما إن يستولوا على مقاليد الحكم حتى يتحولوا إلى ارستقراطية تحكمهم بالطريقة التي تريد.. لم تنج خبرة بشرية من ذلك بما في ذلك خبرة المسلمين، حيث ما لبثت دولة الخلافة التي أسست على الشورى أن تحولت إلى مُلك عضوض، استمر عدة قرون وكان نتاجها ما يعرف بالحضارتين الأموية والعباسية… وقبلهما كتب أفلاطون في مؤلفه الجمهورية أن الديمقراطية هي نظام فاسد لأنها تعني ببساطة حكم الأغلبية من الفقراء ضد الأقلية من الأغنياء وتبعه في ذلك تلميذه ارسطو الذي حاول أن يجمع بين الديمقراطية والارستقراطية ، ولم تُفلح ثورة “سبارتاكوس” في روما عبر العبيد الفقراء، في التغيير. وحتى عندما جاءت المسيحية وحاولت الفصل بين مملكة الأرض والسماء، الدين والدنيا، ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولم تُخفِ البورجوازية الغربية والمَلَكيات المُطلَقة التي جاءت على إثرها أنها سيدة على الفقراء، بل إن دكتاتورية البروليتاريا التي جاءت نظريا نقيضة لها، تحوَّلت هي الأخرى إلى ستالينية مطلقة تبخَّر معها حلم الفقراء!!
وكما حصل في الثورات التحريرية المعاصرة، التي ما إن انتهت حتى صادرتها فئة قليلة انفردت بالسلطة والثروة وتحولت إلى مستويات قيادية أعلى من الفقراء كما حدث في اليمن وبعض الدول العربية.. وفي كل مرة كانت تنزل تلك الثورات إلى الناس بوعود ما تلبث أن تخلفها!!
وإذا كانت السياسة هي علم وفن حكم البشر كما يقول أفلاطون، فهل يحق لرجال السياسة اللجوء إلى أساليب التضليل والخداع لتلميع صورتهم بهدف الوصول إلى غاياتهم لبلوغ السلطة والتحكّم بمصائر الشعوب؟ وهل السياسة باتت مرآة الحكام ومنافساتهم ومنازعاتهم وصراعاتهم ومناوراتهم وجرائمهم ومؤامراتهم كما يقول الكوكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"؟ أية مشروعية تحلّل للسياسي اعتماد الكذب والمراوغة والتضليل خلال ممارسته السلطة على شعبه؟ إذا كان الكذب في حدّ ذاته وسيلة لا أخلاقية ومنافية للقيَم العامة، فكيف يتسنى للكذب والخداع أن يكتسبا مشروعية سياسية؟
غير أنه أخطر ما في الكذب السياسي هو التوظيف النفعي للدين، وكذلك صناعة الأساطير سواء أكانت قومية أو دينية لتحقيق أهداف معينة، وقد تتمثّل هذه الفائدة هنا في إضفاء الشرعية السياسية على طابعها الإيديولوجي السلطوي. فالحركة الصهيونية، مثلاً، لم تبتكر أسطورة أرض الميعاد، ولم تسهم في كتابة الأسفار الدينية، ولم تبتكر أسطورة شعب الله المختار، لكنها وظّفت هذه الأسطورة سياسياً لتحقيق أهداف سياسية أدت إلى نشوء دولة "إسرائيل" على حساب الدولة الفلسطينية. ويخلص الفيلسوف الألماني هانزر بلومنبرغ إلى القول : أن الأسطورة تُعدُّ أكثر حيوية، وأكثر سرعة في التأثير على الأفراد والجماعات، لأنها قادرة على التغلغل إلى نفوسهم وعقولهم. لقد استخدم النازيون مثلاً أسطورة العرق الآري لشد عصب الشعب الألماني في مواجهة الأعداء.

ويبدو أن الكذب السياسي هو ابن السلطة، بحيث يجد كثير من السياسيين مبررات لممارسة الكذب، وهم مستريحو الضمير، مستندين إلى خلفيات فكرية ونظرية أجاد فيها فلاسفة كثر، كأن يتحدث أفلاطون عن "الكذب النبيل"، ويقول فولتير إن "له قيمته"، فيما يعتقد أتباع ليو شتراوس من المحافظين الأميركيين الجدد أن "الجماهير لا يمكن أن تُساس وتُحكم إلا بالكذب" !!
كما يُفرط مكيافيلي في الكذب عبر كتابه الشهير "الأمير" من منطلق اعتقاده في أن السياسي لا ينتصر فقط بالقوة بل بالحيلة والخديعة.

وغالباً ما يستعمل السياسي أدوات الخطابة والجدل والبلاغة لقلب الوقائع وإحداث التغيير المطلوب في نفوس الجماهير، لتصبح مهمة السياسي الكاذب تكمن في تحويل الاستعارة إلى حقيقة عبر تجريدها عن واقعيتها.

وعلى الرغم من أن الكذب هو طريقة للسطو على الحقيقة وإلغائها، أو هو حقيقة ذاتية بديلاً من الحقيقة الموضوعية، فإن محترفي الكذب من السياسيين يعتبرون أن من حقهم الكذب لأن مصلحة الدولة أو الطائفة التي ينتمون إليها تقتضي هذا من وجهة نظرهم، مدفوعين بعدة اعتبارات براغماتية.
ويُعدُّ جوبلز وزير الدعاية النازية وصاحب الشعار الشهير "أكذب، أكذب، أكذب حتى يصدقك الناس" أحد أبرز المدافعين عن ثقافة الكذب والخداع والتضليل، وهو القائل "أعطني إعلاماً بلا ضمير، أعطك شعباً بلا وعي".

وهكذا يصبح الكذب ثقافة يومية يمارسها السياسي دفاعاً عن مصالحه وأهدافه الخاصة، ولكنه يوهم مناصريه بأنه يدافع عنهم وعن مصالحهم. ويحمل الكذب معاني التضليل والغش والمخاتلة والتزوير والتزييف والدهاء والحيلة وإخفاء الأسرار والغدر والمكر والمراوغة والمناورة، إلى جانب تبرير فعل شائن، أو تلميع صورة، أو إخفاء فضيحة وهذا هو ما يحدث اليوم في اليمن !!
د. علوي عمر بن فريد