د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
الحنين إلى الوطن
يحن المرء إلى وطنه ومرابع صباه سواء بقي فيه أو رحل عنه وتغرب عن الديار إلا أنه يحمله معه أينما حل وارتحل وتظل ذكرياته محفوظة في قلبه وبين جوانحه يتذكر بها نشأته وطفولته وعندما تضيق عليه الغربة وتقسو عليه يستحضر من ذاكرته شريط حياته في طفولته وشبابه وجمال الطبيعة في بلاده وتواسيه وتنسيه فراق أهله ووطنه واغلب الشعراء الذين كتبوا عن الحنين إلى الأوطان ، تأثروا بما حدث لهم في حياتهم من عواطف جياشة وذكريات واكبت حياتهم حتى الممات ، ومثالا على ذلك ، ابن الرومي ،الذي عايش الحوادث والكوارث في كل لحظة من حياته ، حيث توالت عليه المحن من وفاة اقاربه ، وأبنائه ، واحتراق أرضه فيقول في قصيدته :
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً
كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهمُ
مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكَّرتهمُ
عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذالكا
فقد ألفته النفسُ حتى كأنهُ
لها جسدٌ إِن بان غودرَ هالكا
اما الشاعر محمود سامي البارودي فقد عبر عن أحزانه وأوجاعه عندما تم نفيه سبع عشرة سنة في سرنديب وقال في ذلك :
ما للنسيم بليلة اذياله ؟ * أتراه مر على جداول أدمع
بل ما لهذا البرق ملتهب الحشا ؟ * أقسمت إليه شراره من أضلعي
فالغيث يهمي رقة لصبابتي * والطير تبكي رحمة لتوجعي
ويعتبر الحنين إلى الديار من أصدق الأغراض الشعرية كونه يصدر من قلب يغلي ، ويعتصر من الأشواق ، وألم الفراق ،
وهناك العديد من المظاهر التي نجدها في شعر الحنين للوطن التي تتميز ، وتختلف من شاعر إلى آخر ،ومن زمن إلى آخر حسب ظروف الشاعر وظروف غربته عن وطنه، فهناك من شعر بالاغتراب داخلها ،ومن نفي خارجها ،ومن اضطر إلى تركها خشيه الاضطهاد الذي وقع عليه فيها أي تركها رغماً عنه ،وقلبه يعتصر
ويتغنى شعر الحنين للوطن بجمال الطبيعة الذي يزيد من سحر التغني بالأوطان ، وبيان جمالها من جداول عذبة ، ومناظر طبيعية ويظهر في شعر الحنين للوطن مناجاته للوطن ؛ حيث يمتزج الإحساس العميق ، والحب الصادق ، واللهفة ، وهي نزعات إنسانيه عريقة متأصله في تراثنا العربي
لما تمثله من مشاعر جياشة ونجد أيضا في الشعر الاندلسي مظاهر الحنين للوطن تتمثل في بناء القصيدة ووحدتها
حيث حافظ الشعراء العرب على بناء القصيدة التقليدي الذي ساد في المشرق ،وهي المطلع ،وحسن التخلص ، والخاتمة مما يخلص إلى وحدة القصيدة وهي ترجمان لما يكمن من مشاعر
فصدق الشعور من أقوي أسباب الإجادة
تبرهن علي صدق انتمائهم لهذا الوطن الذي صمد
في وجه التحديات ، ومصائب الدهر ، وتقلباته ، وتميز أهل الأندلس برجاحة عقولهم ، وبلاغتهم
مما دعي الشاعر ابن الجياب أن يدعو لهم بالستر في الدنيا ، والآخرة فهذا يدل علي مفاخرته بأهل الاندلس ولم يستطع شعراء الأندلس إخفاء إعجابهم بجمال مدينة غرناطة التي احتلت مكانة عظيمة في قلوبهم حيث لقبت بدار الأحبه ووصف الشعراء قصر الحمراء ،وعجائبه ، وجريان الماء تحته وجمال بحيرته والمزج بين الطبيعة والشعر وقد تأثر الشعراء العرب ببعدهم عن وطنهم العربي ،والحنين إلى المشرق بعد فتح المسلمين للأندلس علي الرغم من جمال طبيعتها الساحره فكما وصفها أحد الأمراء الأمويين عبد الرحمن الداخل في شعره أن جسده في الأندلس ، وقلبه في بلاد الشام والشاعر إنسان يمر بتجارب قد تكون مغايرة لغيره من الناس لكنه يحس بالموقف ، ويتفاعل معه نفسياً ، وفكريا
ثم يصوغ ذلك شعرا ليشاركه القارئ ، والسامع أحاسيسه ، ومشاعره ، وبمقدار هذه المشاركة يتحدد نجاح الشاعر أم فشله
فالشاعر الجيد هو الذي يتفاعل مع تجربته ، ويهضمها ، ويسيطر عليها بفكره ، ويغوص بها لينقل لنا صراع مشاعره ومنذ دراستي المبكرة وخاصة في المرحلة المتوسطة كانت بلاد الأندلس الخضراء وتاريخها وفتوحات العرب لها تستهويني وكنت أتذكر دوما شعر ( صقر قريش )عبد الرحمن بن معاوية الذي فر من دمشق وسيوف العباسيين تلاحقه بعد أن قتلوا أخيه وهما يعبران نهر الفرات ولكنه نجا وعبر البر والبحر وأسس دولة قوية في الأندلس ولكنه كان يشعر انه وحيد في ارض غريبة رغم انه حاكمها وامر بإحضار شجرة نخل من المغرب فزرعها وعندما كبرت كان ينظر إليها ويقول :
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي *** فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ *** عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ *** مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي *** بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي
ومن يقرأ هذه الأبيات يشعر بالقهر والحنين وعزة نفس قائلها حيث انه كان حاكما قويا وقائدا عسكريا محنكا لكن يبقى هناك شيء اقوى من هذا المجد وهو الغربة والشعور بالحنين وذكريات الطفولة حتى انه ذات مرة أرسل وزيره سرا إلى الشام ليحضر ما تبقى من أهله وامره ان يأتيه من غراس الشام من الاشجار كل الأنواع وحمله قصيدة قال فيها :
أيها الراكب الميمم أرضي
أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قُدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
...
وهنا نستدرك مشاعر صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية .. وهو من قام ببناء مسجد قرطبة والذي يعتبر نسخة طبق الأصل عن مسجد بني أمية في دمشق وحين حضرته الوفاة كان آخر كلامه لو أخترت مكان الموت ما أخترت سوا الشام ..مات الداخل بعد ان حكم 33 عاما تاركا لعقبه دولة استمرت في ذريته 3 قرون .
د . علوي عمر بن فريد