منير شفيق يكتب:
أزمة الحرب في أوكرانيا إلى أين؟
أزمة أوكرانيا لها تاريخ طويل ومعقد، بدأ مع انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي، وحصول أوكرانيا على استقلالها، إلى أن وصل مرحلته الراهنة التي استهلت بانقلاب عام 2014، وتشكّل نظام موالٍ لأمريكا والغرب، مما اضطر روسيا إلى القيام بعملية عسكرية لاستعادة شبه جزيرة القرم، وجزء من شرقي أوكرانيا. ولم تهدأ المواجهات العسكرية الداخلية، إلاّ بعد اتفاق مينسك لوقف إطلاق النار. وقد تشكلت جمهوريتان في شرق أوكرانيا، هما جمهورية دونتسك الشعبية، وجمهورية لوهانسك الشعبية، تدعمهما روسيا.
على أن اتفاقية مينسك، وإن أوقفت إطلاق النار، إلاّ أنها أبقت الجمر تحت الرماد. فجمهورية أوكرانيا الموالية للغرب مصممة على ضم شرقي أوكرانيا، وقد وضعت أيضاً في دستورها الانضمام إلى حلف الناتو، الأمر الذي يرى فيه بوتين تهديداً للأمن القومي الروسي، لا يمكن تحمله، أو السكوت عليه، إذا وضع ضمن إطار السياسة الأمريكية التي ضمت إلى حلف الناتو الجمهوريات السوفييتية السابقة، مثل ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، وجورجيا (لولا التدخل الروسي)، والحبل على الجرار، الأمر الذي يعني تطويق حدود روسيا الاتحادية بالكامل، وذلك لإتمام عملية عسكرية استراتيجية تستهدف زرع الصواريخ المتوسطة المدى والقريبة المدى، كالسوار من حول روسيا.
من هنا يجب أن تُفهم القيادة الروسية حين تحشد قواتها حول أوكرانيا، وتذهب بأزمتها مع الناتو (أمريكا وأوروبا) إلى حد الوقوف على حافة الحرب. فروسيا أمام تهديد لأمنها القومي، ولا بدّ لها من أن توقفه بعد أن وصل إلى أوكرانيا.
عند هذا الحد طفح الكيل مع قيادة الكرملين رئاسة وجيشاً وحكومة ودولة عميقة، فتحركت القوات إلى حدود أوكرانيا وبدأ حشد الدبابات، بما يوحي - بلا شك - بالتحضير لهجوم عسكري كبير. وقد أوضح بوتين أن الوضع الأوكراني وتسليحه وإعداده ليُضم إلى الناتو، وتحضير حكومة كييف لاكتساح شرقي أوكرانيا، سيشكلان خطراً على الأمن القومي الروسي بأعلى مستوى. ولهذا حدّد هدفاً عاماً لهذا الحشد، وهو تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة، مجردة من السلاح، بما يشبه الحالة الفنلندية في مرحلة الحرب الباردة. طبعاً هذا هو السقف الأعلى، أما السقف الأدنى الذي يمكن القبول به، وهو التعهد الأوكراني- الأمريكي- الأوروبي بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، والتمسك باتفاقية مينسك في عدم الهجوم على شرقي أوكرانيا.
الجواب الأمريكي جاء من الناحية السياسية: عدم تلبية أي من المطالب الروسية المتعلقة بأمنها القومي، وتهديد روسيا بإنزال أشد العقوبات الاقتصادية والمالية إذا لجأت إلى الحرب. وراحت، مع حلفاء لها وخصوصاً بريطانيا، تسلح جيش أوكرانيا بأسلحة متطورة جداً، تتعدى الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، إلى صواريخ بالستية متوسطة وقصيرة المدى. وقد انضمت أوروبا إلى التهديد بالمشاركة في العقوبات في حالة هجوم روسي على أوكرانيا، فيما اعترضت ألمانيا على ما جرى ويجري من تسليح لأوكرانيا، وسعت إلى التوسط لنزع فتيل الصدام، وكذلك قامت فرنسا بوساطة مع إرسال قوات إلى رومانيا.
وبهذا اشتعلت الأزمة الأوكرانية إلى مستوى التهديد باندلاع الحرب، وقد راحت إدارة بايدن تتوقع هجوماً روسياً، وتحدد مواعيده، وذلك برغم تأكيد روسيا على عدم نيتها بشنّ هجوم عسكري. وقد ذهبت بعض التصريحات الروسية تصف الموقف الأمريكي بإثارة حملة هستيرية، ومحاولة لدفع روسيا إلى مهاجمة أوكرانيا عسكرياً.
إن حشد الجيوش من أجل تحقيق هدف، أو تلبية أهداف معينة، لا يمكن التعامل معه، من حيث المبدأ والخبرة التاريخية، إلاّ بأعلى درجات الجديّة، ولا يجوز للمعني بالموضوع أن يتعاطى وإيّاه إلاّ بأعلى درجات الجديّة؛ لأن من يحشد الجيوش، كما فعل ويفعل بوتين حول أوكرانيا، معلناً ضرورة تلبية مطالب محددة له، يصبح مُلزماً بالحرب إن لم يُستجَب لطلباته، وإلاّ يكون قد هُزِمَ عسكرياً وسياسياً، وعليه أن يواجه مسؤولية هزيمة مدويّة تلحق به إذا فكك الحشد دون تحقيق مطالبه، أو في الأقل المطلب الرئيس منها.
ولهذا فعلى أمريكا، إن كانت تريد عدم وقوع الحرب أو تجنبها، أن تلبي ما يرضي بوتين من ناحية الأمن القومي لروسيا. أي أن يذهب الطرفان إلى المفاوضات المباشرة، أو غير المباشرة، ليصلا إلى اتفاق يؤمن الجانب الذي لا يمكن لبوتين أن يقبل باتفاق أقل منه.
ولكن أمريكا، حتى اللحظة التي يكتب فيها هذا المقال، مصممة على عدم تقديم ما يرضي بوتين حتى يسحب قواته، كأنها تقول له: تفضل هاجم عسكرياً، وجوابنا سيكون مقاومة أوكرانية مسلحة ضدك، وعقوبات اقتصادية ومالية أمريكية- أوروبية قاسية، لن يحتملها نظامك وشعبك أبداً. يعني أن على بوتين أن يذهب إلى الحرب، أو إلى الهزيمة إذا لم يذهب إلى الحرب.
هنا على بوتين أن يفكر أولاً في التهديد المتعلق بالعقوبات الاقتصادية والمالية، وكيف سيواجهها إذا ذهب إلى الحرب، وأن يفكر ثانياً بما يمكن أن يواجهه من مقاومة عسكرية من الجانب الأوكراني. وهذه الإشكالية الثانية يمكن أن تكون تحت السيطرة بالنسبة إليه، مثلاً حرب بلا احتلال، أو باحتلال جزئي، أو باحتلال سريع يعقبه انسحاب سريع.
لا شك في أن تهديد أمريكا في موضوع العقوبات الاقتصادية والمالية هو الأشدّ خطراً ووطأة على بوتين؛ لأن نظامه ليس من نوع الأنظمة الثورية المستعدة لتحمل العقوبات والحصار إلى أمدٍ قد يطول.
من هنا يمكن اعتبار الاتفاق الروسي- الصيني الذي عبّر عنه بيان قمة بوتين- شي جين بينغ، هو ردّ حازم من بوتين على التهديد بالعقوبات الأمريكية-الأوروبية؛ لأن الاتفاق المذكور، ارتفع بالعلاقات الروسية- الصينية إلى مستوى يُلزم الصين بالوقوف إلى جانب بوتين بكل إمكاناتها، مما يسمح لبوتين أن يواجه العقوبات بأقل ما يمكن من المخاطر على الداخل الروسي، وعلى الوضع الاقتصادي والمالي الروسي، الأمر الذي يفرض على أمريكا وأوروبا بعد هذا البيان أن يواجِها التحدي الروسي في الأزمة الأوكرانية، دون الركون كلياً إلى أن أن التهديد بالعقوبات سيمنع بوتين من المضيّ في الحشد العسكري، أو سيمنعه من شنّ الحرب.
لا شك في أن المستوى الذي ارتفعت إليه العلاقات الروسية- الصينية، كما عبّر عنها بيان الرئيسين شي جين بنغ وبوتين، أحدث تغييراً مفاجئاً مهماً في ميزان الصراع المتعلق بأوكرانيا. وذلك في مصلحة بوتين، سواء أكان من ناحية مواصلة الحشد، أو شنّ الحرب من جهة، أم كان من جهة أمريكا وأوروبا في البحث عن تسوية ترضي بوتين، وتسمح بنزع فتيل الحرب في الأزمة الأوكرانية.
هذه المعادلة الجديدة في موازين القوى تسمح لبوتين أن يستمر بالحشد ويصعده كما يفعل الآن، وإلى أمد أطول، وحتى من دون اللجوء إلى الحرب. أي إبقاء خطر الحرب قائماً، وإبقاء الأزمة ملتهبة، ولأمد قد يطول. فبوتين، والحالة هذه، يضع أوكرانيا في أزمة لا يسهل عليها احتمالها، ويضع أوروبا في أزمة لا تحتاج إليها. هذا، بالطبع، إذا لم يذهب إلى الحرب، وقد أمِنَ نسبياً من تهديد العقوبات الأمريكية- الأوروبية.
أما على المستوى الأوروبي والأمريكي فستدفع هذه المعادلة الجديدة لميزان قوى يميل في مصلحة بوتين، وبقاء زمام المبادرة بيده، إلى البحث عن توافقات.