منير شفيق يكتب:

جيلٌ أشدّ رقبة

يجب التوقّف والتأمّل طويلاً أمام ما نقله المراسل العسكري الصهيوني، أور هلير، قائلاً: «كنتُ داخل إحدى مركبات الجيش التي دخلت جنين الساعة العاشرة صباحاً (9/4/2022)، ولم أصدّق أن أكثر من 1000 شاب يلقون الحجارة والحارقات ويهتفون ضدّنا، وأن أحد الفتية ضرب باب الجيب العسكري، وقال: افتح، افتح وبيده حجر!». وتابع: «غريب جداً هذا الجيل، لا يخاف أبداً رغم إصابة سبعة منهم بالرصاص الحيّ وكثرة الجنود، أكثر من 50 دورية وجرّافة دخلنا ولم نُرعب هؤلاء!».

 التوقّف والتأمّل المطلوبان ليسا أمام مجموعة شباب تلقي الحجارة على جيب عسكري، فهذه ظاهرة مكرَّرة منذ عشرات السنين في الضفة الغربية، وإنّما خروج أكثر من ألف شاب ليهاجموا بالحجارة والمولوتوف، اقتحاماً من خمسين آلية لمخيّم جنين، وذلك دعماً لمقاومين بالسلاح، وقد تكرّر الهجوم والصدّ ثلاث مرّات خلال أسبوع.

إن العمليات التي حدثت في بئر السبع والخضيرة وحيّ «بني براك» وشارع «دوزينغوف» في تل أبيب، عبّرت عن تصعيد في هجمات المقاومة المسلّحة من حيث المهارة في الأداء والشجاعة والإنجاز، وفي المقابل، أحدثت مفاجآت وإرباكات في صفوف العدو، وزيادة في نسبة القتلى والجرحى، إلى جانب ظاهرة الهروب الجماعي والفزع، كما شوهدت مصوَّرة في «دوزينغوف» في أثناء هجوم الشهيد رعد حازم الفذّ والمدهش، على رغم أن سلاحه مجرّد مسدّس، لكن لا تخرج الطلقة منه إلّا في الوقت المناسب، والمكان المناسب، لتُحدث إصابة دقيقة. وقد دامت مشاهد الهروب والفزع تلك أكثر من 8 ساعات، واقتضت إرسال قوات مطاردة وملاحقة لم يسبق لها مثيل إلى قلب تل أبيب، لتنتهي المواجهة باستشهاد البطل في مسجد في يافا بعد أدائه الصلاة، وعلى بُعد 6 كيلومترات من مسرح العملية. ثمّ تلت ذلك مواجهة ذات دلالة، تمثّلت في صدّ هجمة عسكرية ثالثة على مخيم جنين، استشهد فيها البطل الجهادي أحمد السعدي. هذه المواجهات الثلاث في المخيّم عبّرت عن مستوى جديد من المقاومة، وهو الاشتباك المسلّح، في ظلّ وجود قاعدة تلتفّ حولها الجماهير ويشارك فيها، في الآن نفسه، آلاف الشباب المدجّجين بالشجاعة والحجارة والقذائف الحارقة. هذا يعني أن العمليات الفردية الشجاعة والاشتباكية دخلت مرحلة أعلى من الناحية العسكرية.

وبعد، فَلْنتوقّف إزاء الصورة التي نقلها هلير، لنلحظ خروج ألف شاب لمواجهة اقتحام واسع النطاق في مخيم جنين، ثمّ إقدام أحد الفتية من بينهم ليطرق بحجره على باب الجيب، ويطلب من جنوده المدجّجين بالسلاح فتحه. هذا الفتى الصغير ينبئ بأننا أمام جيل قادم سيواصل المقاومة التي بلغت أوجها في «سيف القدس»، وانتفاضات أيار 2021، وامتدادهما من خلال العمليات الأربع، والتصدّي للاقتحامات في جنين. نحن أمام جيل «أشدّ رقبة» من الجيل الذي مثّلته صواريخ «سيف القدس»، وبطولات المواجهة في المسجد الأقصى، وباب العَمود، والشيخ جراح، وانتفاضة شباب الـ48 التي هزّت الكيان الصهيوني هزّاً، ثمّ تظاهرات الضفة الغربية وخروج مقاومين من «فتح» للمساهمة في ظاهرة العمليات البطولية، ما جعل قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله تقف على قارعة الطريق، مرتبكة وعاجزة، ولا مفرّ.

فعمليات الشهداء الأفذاذ الأبطال الخمسة، شهيد عملية بئر السبع محمد غالب أبو القيعان، وشهيدَي عملية الخضيرة أيمن وخالد أغبارية، وشهيد عملية حيّ «بني براك» ضياء حمارشة (الذي ألهم آلاف الفتية ليكون قدوتهم)، وشهيد عملية «دوزينغوف» رعد حازم زيدان، أوجدت مناخاً جديداً يحثّ على تأجيج المقاومة المسلّحة في الضفة الغربية، لتصبح ظاهرة بارزة من جديد في المواجهة مع الاحتلال والاستيطان، وليلتقي هذا التطور مع المواجهات المندلعة في باب العَمود والشيخ جراح والمسجد الأقصى، حيث تمارَس ضغوط هائلة دولية وعربية وصهيونية لتهدئة الوضع، فيما جاء تعميم مدير الأوقاف الأردنية في القدس بمنع الاعتكاف في المسجد الأقصى قبل الـ20 من رمضان، والذي دعمته سلطة رام الله، من أجل أن تُمرّر الاقتحامات الصهيونية التي كانت مُقرّرة في 15 رمضان، وهو ما يجب التراجع عنه، حفاظاً على وحدة الموقف في القدس في مواجهة الاقتحامات الصهيونية، ومحاولة فرض وقائع تهويدية على المسجد الأقصى.

إن التطوّر نحو تأجيج المقاومة المسلّحة، والذي أحدثته المواجهات في مخيم جنين والعمليات الأربع، وما يجري وسيجري في القدس والمسجد الأقصى، راح يدفع الضفة الغربية والقدس ليصبحا مركز الثقل في المعارك القادمة مع الاحتلال والاستيطان، جنباً إلى جنب، مع قاعدة المقاومة الجبّارة في قطاع غزة. وهذا ما يوجب على فصائل المقاومة، وفي مقدّمها «حماس» و«الجهاد» و«الجبهة الشعبية»، أن تتقدّم باللحظة الراهنة، وتدفع بها إلى أمام، سواء من ناحية توحيد الموقف المقاوم والشعبي في جبهة وطنية، أو من ناحية الارتفاع إلى مستوى المرحلة الجديدة التي يدخلها الصراع مع العدو. لقد حانت مرحلة الحسم مع الاحتلال والاستيطان والاعتداءات في الضفة الغربية والقدس، وهي مرحلة توحيد الموقف الفصائلي والشعبي وأشكال المقاومة الفردية والانتفاضات الشبابية، وذلك للانتقال من الصمود والمقاومة إلى الهجوم والإنجاز، وإنزال الهزيمة بالاحتلال ودحره، بلا قيد أو شرط.

إن موازين القوى السائدة الآن عالمياً وإقليمياً، وما يعانيه العدو الصهيوني وأميركا من تراجع وإرباك، وما حلّ بظاهرة التطبيع من فشل وعار، وما وصلت إليه سياسات «اتفاق أوسلو» و«حلّ الدولتين» من سقوط في الوحل وتمرّغ فيه، كلّ ذلك يشكّل دافعاً جديداً ومهمّاً للانتقال بوحدة الشعب الفلسطيني إلى مرحلة الحسم بقوّة ضدّ الاحتلال والاستيطان والاعتداءات على القدس والمسجد الأقصى. وهي أهداف قابلة للتحقيق، في ظلّ التقاء موازين القوى الراهنة مع التصميم على مواصلة المقاومة والانتفاضة.

فالكيان الصهيوني وأميركا والغرب عموماً أضعف من أن يتحمّلوا مقاومة وانتفاضة حازمتَين وطويلتَي النفَس، ولا سيّما في ظروف غرقهم المضطرب في الحرب في أوكرانيا. كما لن يكون من السهل على بعض الأنظمة العربية التصدّي للإرادة الفلسطينية وللشعوب العربية والإسلامية ولأحرار العالم في دعم المقاومة والانتفاضة.

وبالمناسبة، فلْيحذر كلّ من أيَّد المقاومة المسلّحة في أوكرانيا، من أن يسمّي المقاومة المسلّحة في فلسطين إرهاباً.

من ملف : إسرائيل «قاصرة» أمام جنين