منير شفيق يكتب:
أي عالم رهيب بانتظار الإنسانية؟
كيف نفهم فتح أمريكا لجبهة أوكرانيا عسكريا ضد روسيا؟ صحيح أن ظاهر فتح جبهة أوكرانيا عسكريا، يشير إلى أن روسيا هي التي حشدت القوات العسكرية، وهي التي بدأت بشنّ الحرب أو إطلاق النار، ولكن في الواقع، أمريكا هي وراء تهيئة الميدان لاشتعال الحرب في أوكرانيا، وذلك بسبب السعي الحثيث لتوسيع الناتو حتى كادت تدخل أوكرانيا فيه، وتستكمل تطويق روسيا وحصارها لخنقها تماما، أو فرض الرضوخ والاستسلام عليها.
لقد راحت أمريكا بعد انقلابها عام 2014، لتغيير النظام الأوكراني الصديق لروسيا، بتسليح النظام الجديد الموالي لها تسليحا خطيرا، كما أظهرت الحرب، بما يهدّد الأمن القومي الروسي مباشرة وعلى أعلى مستوى، الأمر الذي يعني أن أمريكا أجبرت روسيا على شنّ الحرب، وهي تأمل منها إنزال هزيمة استراتيجية بها. وهذا ما دلّت عليه كل ما اتخذته من خطوات لتسعير الحرب، وليس لإيجاد سبيل لتهدئتها، أو الوصول إلى تفاهم بين روسيا وأوكرانيا لوقف الحرب.
فأمريكا لم تترك ضغطا إلّا مارسته على أوروبا لإشراكها في الحرب، من خلال تسليح الجيش الأوكراني، ودعم زيلينسكي الذي تحوّل بين ليلة وضحاها إلى محارب وجنرال، وهو الذي هبط على أوكرانيا بمظلة الصهيوني الأمريكي- الإسرائيلي، وكان بالأمس ممثلا كوميديا.
يجب أن تقرأ السياسات الأمريكية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى اليوم، باعتبارها تمثل استراتيجية جديدة في التعامل مع روسيا، ومن ورائها الصين.
إن الدافع لحدوث هذه الانعطافة في السياسة الأمريكية، لا سيما إذا أثبتت الأيام والأشهر القادمة أن ثمة استراتيجية جديدة تبنّاها البنتاغون والدولة العميقة وبعض مراكز القوى في أمريكا، يختلف عن حلّ التناقض مع روسيا والصين، من خلال التنافس الاقتصادي والعلمي والسياسي والمالي، وذلك في ظل سباق تسلّح، بما يُشبه ما كان عليه الوضع في مرحلة الحرب الباردة مع السوفييت والمعسكر الاشتراكي.
ولهذا، توقع عدد من المحللين الكبار تكرار الحرب الباردة ضد روسيا والصين، كما كان الحال في السنوات الأخيرة قبل الحرب في أوكرانيا. ولكن ما نشهده الآن من تصعيد للمواجهة العسكرية في أوكرانيا، ثم الانتقال لخطوة محاصرة كاليننغراد التي تستدعي الروس لتوسيع الحرب، يعنيان أن ثمة استراتيجية جديدة تستخدم الحرب دون السقف النووي، ولو بتماس معه، أخذت أمريكا بتبنيها لمعالجة التناقض بينها، ومعها حلفاؤها من جهة، وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، الأمر الذي يعني أن حرب أوكرانيا هي البداية، وأن العالم دخل في مرحلة صراعات عسكرية عالمية جديدة، ولن يعود إلى ما كان عليه الوضع الدولي ما قبل حرب أوكرانيا، ولن يعود إلى هدوء من نمط جديد.
إذا صحّ هذا الاستنتاج، فهذا يعني أن العالم دخل في الحروب العالمية التي هي دون النووي، في ما بين الدول الكبرى، وربما دون الشمول الذي عرفته الحربان العالميتان الأولى والثانية.
بالنسبة إلى أوروبا: هل دخلت بدورها في استراتيجية جديدة متكاملة، أو متوازية مع الاستراتيجية الأمريكية، في مواجهة تناقضاتها مع كلٍ من روسيا والصين؟
والملاحظ في الآن نفسه، من متابعة السياسات الأوروبية، والتحضيرات لمؤتمر السبعة الكبار في 24-26 آب/أغسطس القادم، أنها ذاهبة، بدورها، إلى التأزيم العسكري في أوكرانيا، وإلى عسكرة أوروبا من جديد. وذلك بدلا من أن تحاول -كما كان متوقعا من قِبَل الكثيرين- تهدئة الحرب في أوكرانيا. وقد راحت الحرب، حتى الآن، تكلف أوروبا الكثير من الأضرار والخسائر الاقتصادية، والأزمات الاجتماعية.
والسؤال الآخر بالنسبة إلى أوروبا: هل دخلت بدورها في استراتيجية جديدة متكاملة، أو متوازية مع الاستراتيجية الأمريكية، في مواجهة تناقضاتها مع كلّ من روسيا والصين؟
صحيح أن ثمة إشارات صدرت عن ألمانيا وفرنسا مالت إلى البحث في تدارك التصعيد العسكري، وفي البحث عن حل بين أوكرانيا وبوتين، ولكن سار ذلك جنبا إلى جنب، مع دعمهما عسكريا للجيش الأوكراني، مما يسمح بالقول بأن ألمانيا وفرنسا (أوروبا عموما) ذاهبتان في الدرب الذي أخذت أمريكا ترسمه، مما يعني أن كل الحسابات التي قامت على احتساب المكاسب والمخاسر الاقتصادية الأوروبية، في مؤتمر السبع الكبار في 28 حزيران/ يونيو 2022، أصبحت تخضع لاستراتيجية الحرب التي تريد إنزال هزيمة ببوتين. طبعا، دون ذلك السقف النووي الذي أخذ يقترب من الحروب الأدنى منه، أو أخذت تلك الحروب تتصاعد لتطرق بابه.
ويظل الآن إكمال التفسير: لماذا هذا التحوّل في الاستراتيجية الأمريكية نحو ميادين الحروب التي دون السقف النووي، بديلا عن استراتيجية الحرب الباردة، أو ما يشبهها، كما حدث في السابق، وانتصر الغرب فيها على الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو؟
وجدت أمريكا أن التناقض الراهن يجب أن يحل من خلال استراتيجية عسكرية، لا تقتصر على سباق التسلّح والتنافس السلمي، وإنما تأخذ الشكل الأوكراني، مُعمما على نطاق أوسع لاحقا
الجواب يكمن في أن الحرب الباردة التي كانت سِمتها الأساسية سباق التسلّح من جهة، ولكن السباق الاقتصادي والعلمي والمالي والسياسي من جهة أخرى، وقد أصبح السابق الثاني الأهم والحاسم فيها، بعد امتناع الحرب العالمية، بسبب تطوّر الأسلحة النووية لدى الطرفين.
وهنا في المجال الثاني، كانت الهوّة واسعة في مصلحة أمريكا والغرب، وهو الذي سمح بهزيمة السوفييت (طبعا لأسباب سوفييتية ذاتية أيضا).
أما اليوم، فإن الصين منافس متفوّق في هذا المجال الثاني (الاقتصاد والتطوّر العلمي والإمكانات المالية)، بل منافس راح يسبق أمريكا، وقد تأكدت أمريكا أن لا فرصة لها مع الصين، التي أصبحت هي من يريدها حربا باردة، تدوم عشرين أو ثلاثين سنة أخرى.
لهذا، وجدت أمريكا أن التناقض الراهن يجب أن يحل من خلال استراتيجية عسكرية، لا تقتصر على سباق التسلّح والتنافس السلمي، وإنما تأخذ الشكل الأوكراني، مُعمما على نطاق أوسع لاحقا.
فلننتظر عالما من حروب عالمية بين الكبار، ولو دون السقف النووي، إن كان "محظوظا".. بل أيّ عالم رهيب ينتظر الإنسانية.