محمد أبوالفضل يكتب:
الاقتصاد لعنة المسؤولين في مصر
لو أن الأرقام الإيجابية التي يعلنها الكثير من المسؤولين عن شكل الاقتصاد المصري تنعكس مباشرة على المواطنين لتغيرت أوضاع نسبة كبيرة منهم إلى الأفضل، فارتفاع معدلات النمو التي يتم الإعلان عنها من حين إلى آخر كفيل بأن يغير وجه الحياة وينهي الكثير من المعاناة التي تشير إلى أن مصر لا تزال دولة فقيرة.
تكفي إعلانات الجمعيات الخيرية التي تضج بها المحطات التلفزيونية في رمضان وغيره من شهور السنة لإعادة النظر في أرقام رئيس الوزراء مصطفى مدبولي التي أشار فيها إلى أن معدل نمو الاقتصاد المصري بلغ 6 في المئة، فالطريقة التي تستجدي بها التبرعات تفقد البريق الذي يحاول الرجل أن يضفيه على حكومته.
كانت أرقام وزيرة التخطيط هالة السعيد أشد تفاؤلا عندما ذهبت قبل أيام إلى القول إن الربع الثاني من العام المالي الجاري (2021 – 2022) حقق فيه الاقتصاد المصري نموا بنحو 8.3 في المئة، ما يعني أنه بنهاية السنة المالية سوف يشهد النمو قفزة غير مسبوقة، بما لا يتناسب مع الكوابح التي فرضتها جائحة كورونا.
الغضب من الارتفاع المستمر في معدل الأسعار والخدمات يعد علامة قوية على أن قطاعا كبيرا من الناس لا يستفيد من نمو معدل الاقتصاد الذي تبشر به الحكومة ووزراء المجموعة الاقتصادية
لا أعلم هل يقدر المسؤولون في مصر تبعات ما يشيرون إليه من أرقام، وهل يدركون أن لعنتها قد توقعهم في تناقضات مع المجتمع، إذ كيف يتحدثون عن معدلات نمو مرتفعة لم تصل إليها دول كبرى واقتصاداتها أكثر قوة من مصر وهم لا يستطيعون الاستجابة للحد الأدنى من توفير متطلبات المعيشة لفئة كبيرة من المواطنين؟
تقاس الأرقام المرتفعة في معدل النمو بما تقدمه من تغير في معدل البطالة، بالانخفاض طبعا، وارتفاع القدرة الشرائية لدى فئة كبيرة من المواطنين جراء التحسن المنطقي في دخولهم، والتوسع في عدد المصانع والمنتجات الزراعية، ناهيك عن زيادة معدلات التصدير وخفض الاستيراد من الخارج.
شهدت هذه المجالات تحسنا بالفعل وفقا لما تم إعلانه من أرقام، إلا أن روافده على الأرض غير محسوسة حتى الآن، بما يضعف من الأهمية النسبية للمعدلات الجيدة التي تعلنها الحكومة، ما يجعلها في نظر الناس مجرد أرقام صماء.
هناك مؤشرات حدثت خلال الأعوام الماضية تؤكد وجود تغيرات ملموسة في الاقتصاد تشهد عليها العديد من المشروعات التنموية التي تنتشر في طول البلاد وعرضها، ويستند عليها بعض المسؤولين للتدليل على أن ثمة حراكا اقتصاديا كبيرا، ويتم استخدامها لتعزيز موقفهم حول اتساع نطاق التحولات الجارية في مصر.
يستطيع الناس رؤية مظاهر هذه التحولات بسهولة في زيادة عدد الطرقات ووسائل النقل المختلفة وتحسين خدماتها وارتفاع عدد الجسور والمحاور البرية التي تم تدشينها والتوسع في البنية التحتية والمشروعات العمرانية التي تخدم المدن الجديدة.
يطرب الكثير من المسؤولين في الحديث عن رصف آلاف من الكيلومترات من الطرقات، ونوعية وسائل النقل التي دخلت أو سوف تدخل الخدمة، وحجم الرفاهية في المباني السكنية التي أضيفت وناطحات السحاب التي شيدت في العاصمة الإدارية بشرق القاهرة، ونوعية المنتجعات التي تزخر بها، وشكل المقر الصيفي للحكومة في مدينة العلمين الجديدة في شمال غرب مصر.
لا يقدم من يتحدثون عن المزايا تفسيرات لما تتضمنه الأعداد من فوائد مباشرة لفئة كبيرة من الناس، ولأي طبقة ينتمون، فالظاهر أن هناك شريحة طفيفة من المواطنين لديها قدرة شرائية عالية هي التي تحقق مكاسب من غالبية المشروعات العمرانية، ما يجعل الأهمية التي تنطوي عليها جهود الحكومة كأنها مخصصة لهؤلاء فقط.
يقول مصريون إن التبريرات الموضوعية لن تنصف الحكومة، فالخدمات التي أضيفت في أماكن متباينة ومشروعات البنية التحتية الجديدة لن تستفيد منها الشريحة الفقيرة التي تحتاج إلى أن تشعر بالأمان وأن نمو الاقتصاد يجلب لها مردودات مباشرة.
لذلك تلجأ الحكومة إلى الحديث بلغة الأرقام وتستغرق في التفاصيل وهي مطمئنة إلى أنها ستجلب لها رضاء وجاذبية سياسية سريعة، ففي معظمها صحيحة، لكن الغوص في دهاليزها يقلل من فائدتها ويشير إلى أن الاقتصاد يعيش حالة من الركود والانكماش وليس النمو والازدهار، فالمحصلة النهائية بالنسبة إلى غالبية المصريين لا تنطوي على مؤشرات يمكن أن تغير الحالة الاقتصادية المتردية التي يحيون في كنفها.
يعد الغضب من الارتفاع المستمر في معدل الأسعار والخدمات علامة قوية على أن قطاعا كبيرا من الناس لا يستفيد من نمو معدل الاقتصاد الذي تبشر به الحكومة ووزراء المجموعة الاقتصادية فيها ليلا ونهارا، وهي مشكلة دقيقة من الضروري البحث عن وسيلة تحل بها هذا التناقض وتقوض الفجوة بين المواطنين.
مهما كانت الأرقام صحيحة ودقيقة، ومهما تشدقت الحكومة بإشادات البنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهما من الجهات العريقة التي تتابع حالة الاقتصاد، فما يهم المواطن البسيط حجم ما تجلبه له الأرقام المعلن عنها من فوائد مادية.
وتبذل الحكومة المصرية جهودا كبيرة لتوفير برامج للحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة لإحداث نوع من التوازن بين الإسراف في زيادة الأسعار وفرض الضرائب وبين الأوضاع الصعبة التي تعيشها تلك الفئات، غير أن هذه البرامج في حاجة إلى المزيد من الإنفاق والتوسع فيها بطريقة تتناسب مع الغلاء المتفشي كي تصبح جدواها مفيدة.
ويرد بعض المسؤولين سرا وعلانية أن الزيادة السكانية في مصر تأكل التحسن في معدل نمو الاقتصاد، ولن يشعر الناس بتقدمه حاليا أو في المستقبل، وهي حجة تضع على الحكومة أعباء إضافية وتفرض عليها التفكير في وسائل لخفض هذه الزيادة لأن إخفاقها في ضبطها أو في الاستفادة منها بصورة سليمة يؤكد عدم قدرتها على التعامل مع الواقع ويضاعف من جهودها في مجال الحماية الاجتماعية.
هل يقدر المسؤولون في مصر تبعات ما يشيرون إليه من أرقام، وهل يدركون أن لعنتها قد توقعهم في تناقضات مع المجتمع
تكمن أزمة الاقتصاد المصري مع المسؤولين في شقين أساسيين: الأول أنهم لا يراجعون الأرقام التي يستندون عليها بدقة عند الحديث حول معدل نمو الاقتصاد ما يوقعهم في مغالطات فاضحة، حيث يتحدثون عن الجانب المتفائل في القضية دون ربطه بالضوابط اللازمة، فالنمو العام بصورة مجردة لا يكفي لتحسن الاقتصاد.
ويتعلق الشق الثاني بإعادة تكرار نموذج السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق الراحل حسني مبارك عندما قفز التبشير بمعدل نمو الاقتصاد إلى نحو 9 في المئة، ووقتها كان الفقر على أشده في البلاد، وحدثت احتجاجات لأسباب متنوعة أدت إلى سقوطه.
تحتاج الحكومة المصرية إلى مواءمة بين المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فأي تحسن في الاقتصاد لن يخفف المعاناة ما لم يصطحب معه توازنات تجعل لنموه الملحوظ فوائد تتعاظم مردوداتها لتصل إلى شريحة كبيرة من المواطنين.