د. صبحي غندور يكتب:

شتاء 1958 خيرٌ من ربيع العرب اليوم!

أهو "ربيعٌ عربيٌّ" فعلاً حصل منذ 11 سنة ويعيش العرب الآن "نسماته"، أم هو انتقالٌ من هيمنة الاستبداد والفساد إلى التبعية والحروب الأهلية؟! كلاهما تعبير عن زمن انحطاطٍ وتخلّف تعيشه الأمة العربية لأكثر من أربعة عقود.

تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم أنظمة الاستبداد والفساد، مسؤولةٌ عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل يغّير ذلك من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام "الثوة العربية الكبرى"، حيث لم تقم "الدولة العربية الواحدة" التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق "دولة إسرائيل" التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فحنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من "الدولة العربية الموحّدة" جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى!.

وحينما جرت أول محاولة فعلية لتحطيم اتفاقيات (سايكس- بيكو) بإقامة "جمهورية عربية متحدة" تربط جناحي الأمّة في المشرق والمغرب، من خلال وحدة مصر وسوريا في 22/2/1958، انقضّت كل القوى الأجنبية عليها لوأدها في المهد، فلم تعش أكثر من ثلاث سنوات، وكان الانفصال في خريف العام 1961 بداية لحقبة جديدة من الصراعات العربية ومن السعي الأجنبي/الإسرائيلي المشترك لمنع مصر نهائياً من تكرار تجربة محمد علي في القرن التاسع عشر، وجمال عبد الناصر في القرن العشرين، من توحيد مصر مع بلاد الشام. فهذا التوحيد كان تاريخياً وراء قدرة صلاح الدين الأيوبي على هزيمة جيوش "الأفرنج" وتحرير القدس فيما عُرف بحقبة "الحروب الصليبية". 

كم هو فارقٌ كبير بين ما كان عليه حال العرب في فبراير 1958 قبل 64 عاماً، وحال مصر وسوريا تحديداً، وبين ما هو واقع حال اليوم. بين "شتاء" نهاية الخمسينات من القرن الماضي وبين "ربيع" القرن الحالي. بين ما كانت عليه الأمّة العربية من تضامن ووعي وآمال، وما هي عليه الآن من تخبّطٍ سياسي وأمني وصراعات داخلية ومخاوف على مصير الأوطان نفسها.

من عاصروا في القرن الماضي من العرب تلك الفترة الزمنية الغابرة، أو بعض آثارها، يدركون هذا الفارق الكبير بين ما كان عليه العرب، وما وصلوا الآن إليه. والحديث الآن عن تجربة الوحدة المصرية - السورية ليس هو بحنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بل هو لمواجهة من يُغرق الأمَّة الآن في خلافاتٍ وصراعاتٍ ليس الهدف منها نهضة الأوطان وتقدمها، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون "الدولة اليهودية" قائدة وراعية لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.

هو "زمنٌ إسرائيلي" نعيشه الآن، بعد الانقلاب الذي حدث على "زمن القومية العربية"، حين كانت مصر في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي طليعة له. فاليوم تشهد كل بلاد العرب "حوادث" و"أحاديث" طائفية ومذهبية وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.

هو "زمنٌ إسرائيلي" الآن على مستوى أولويّة الصراعات في المنطقة، إذ جرى تهميش "الصراع العربي/الصهيوني"، وتنشيط الصراعات الأخرى في عموم "الشرق الأوسط"، بحيث ضاعت معايير "الصديق" و"العدو" وطنياً وإقليمياً ودولياً، وأصبح "المقاومُ" مُداناً، والمساندُ  الدولي للعدوِّ الإسرائيلي "مرجعيةً إنسانية" مطلوبٌ تدخّلها لحلِّ أزماتٍ عربية داخلية!.

اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كانت عليه مصر وسوريا والعرب قبل أكثر من ستين عاماً.. اليوم تضعف "الهويّة العربية والوطنية" لصالح "الانقسامات الوطنية الداخلية"، اليوم تزداد الصراعات العربية بينما تستمر إتفاقيات "التطبيع" والمعاهدات مع إسرائيل!

ألم يبدأ عام "ربيع العرب" 2011 بانفصال جنوب السودان (بتحريض من إسرائيل ودول غربية) وقبول دولته فوراً في الأمم المتحدة؟ ألم يؤدِّ احتلال العراق في العام 2003 لتغيير نظام الحكم فيه إلى تقسيمه عملياً؟! ألم تكن أولى باكورات الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 بحجة تحجيم المقاومة الفلسطينية هي إعلان "دولة جنوب لبنان الحر" بقيادة العميل الإسرائيلي سعد حداد؟! أوَليست إسرائيل حاضرةً الآن في أكثر من ساحة عربية "مسالمة" أو "مشتعلة" بصراعات أهلية؟

صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد حطمت حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما يجرى أيضاً هو محاولات تحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودة في كلّ المجتمعات العربية، إن كانت منتفضةً الآن أو مستقرّةً إلى حين.

الآن، يرى البعض الحلَّ في المنطقة العربية بالعودة إلى "عصر الجاهلية" وصراعاتها القبلية، ويستهزئون بالحديث عن حقبتي "الخمسينات والستينات"، وعن "تجربة الوحدة المصرية/السورية".. وبعضٌ عربيٌّ آخر يرى "نموذجه" في الحل بعودة البلاد العربية إلى مرحلة النصف الأول من القرن العشرين، التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على مصر والمشرق والمغرب! لكن ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة صياغة مشروع وطني عربي شامل، تكون الديمقراطية والهوية العربية ورفض التدخل الأجنبي ونبذ أسلوب العنف في المجتمعات، بمثابة أركان أربعة متكاملة فيه بحيث لا يجوز الأخذ بواحدها دون الآخر، ففي ذلك ضمانات للحاضر والمستقبل، ولوحدة الشعوب والأوطان والأمّة معاً.

اللهمَّ ارحمْ شهداءَ هذه الأمَّة وضحايا حكوماتها ومعارضيها، من بشر وأوطان وتجارب تاريخية عربية ناصعة، واقصِ عن رحمتك من يسعوْن في الأرض العربية المباركة فتنةً وفساداً وتقسيماً، كائناً من كانوا: عرباً أم أجانب، حكاماً أم معارضين، كتّاباً أم إعلاميين أم متستّرين بغطاء دين ..