محمد مرشد عقابي يكتب لـ(اليوم الثامن):
روسيا تبدأ المواجهة الاقتصادية مع الغرب
تواصل روسيا اتخاذ خطوات اقتصادية في مواجهة العقوبات الغربية المتتابعة عليها، ويتضح من الخطوات المتخذة إلى الآن أن موسكو تولي أهمية للمحافظة على استقرار عملتها الوطنية التي تستمر في الانهيار أمام العملات الأجنبية، والبارز في القرارات الأخيرة توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما بشأن تطبيق تدابير اقتصادية خاصة في مجال التجارة الخارجية من أجل ضمان أمن روسيا، ووفق المرسوم، أمر بوتين بحظر استيراد وتصدير المنتجات والمواد الخام من وإلى روسيا في عام 2022م، وفقا للقوائم التي يحددها مجلس الوزراء، فيما ينتظر أن تقدم الحكومة قائمة بالسلع المضمنة في المرسوم والدول التي سيشملها القرار، رجح خبراء أن تشمل قائمة المواد الممنوعة من التصدير الأسمدة التي تدخل في الزراعة الأوروبية والبلاديوم الذي يدخل في صناعة السيارات الأوروبية، إضافة إلى النيكل والكوبالت اللذين سيخلف حجبهما تبعات سلبية على إنتاج السيارات الكهربائية.
وأيدت اللجنة التشريعية الحكومية اقتراح تأميم الشركات الأجنبية التي أعلنت توقفها عن العمل من ضمن الحزمة الثانية من الإجراءات الهادفة إلى دعم الاقتصاد الوطني في حين يواصل البنك المركزي الروسي اتخاذ إجراءات لبث الاستقرار في سوق العملات وتشمل هذه الإجراءات التي ستتبع لمدة 6 أشهر، الاحتفاظ بجميع أموال العميل في حسابات أو ودائع العملات الأجنبية واحتسابها بعملة الإيداع، فيما يمكن للعميل سحب ما يصل إلى 10 آلاف دولار نقدا وباقي الأموال بالروبل بسعر السوق في يوم الإصدار، إضافة إلى منع البنوك من بيع عملات أجنبية نقدا خلال الفترة نفسها.
وطبقا للخبير المالي "ميخائيل شولغين"، فإن تلك الخطوات هدفها القضاء على الاتجاه نحو الدولار في ظل استمرار الضغط على العملة الروسية، ويوضح شولغين، في تصريح إلى صحيفة "غازيتا. رو"، أنه في الظروف الحالية والتي تختلف اختلافا جذريا عن ظروف السوق بالمعنى الكلاسيكي من الصعب تحديد النطاق الذي يمكن أن يستقر فيه سعر صرف الروبل مع نماذج التنبؤ الاقتصادي، بدوره يبين المحلل المالي "سيرغي سوفيروف"، أن خطوات المركزي مرتبطة بنقص السيولة النقدية في البلاد على خلفية العقوبات الغربية، إضافة إلى أنها تستهدف القضاء على المضاربة في سوق الصرف، وتأتي هذه القرارات مع استمرار الضغط على اقتصاد روسيا بعد فرض واشنطن حظرا على واردات النفط والغاز والفحم الروسية، فضلا عن فرض بريطانيا حظرا مماثلا على النفط واستثنائها الغاز من ذلك، ولم تتفاجأ موسكو بالقرار الأميركي الجديد إذ اعتبر المتحدث الرسمي باسم الكرملين "دميتري بيسكوف"، أن الولايات المتحدة أعلنت شن حرب اقتصادية ضد روسيا، ولفت بيسكوف إلى أن الوضع في أسواق الطاقة يتطور بشكل مضطرب للغاية، كما حذرت السفارة الروسية في واشنطن من أن حظر استيراد منتجات الطاقة الروسية سيؤدي إلى تقلبات في أسواق الطاقة العالمية، منبهه إلى أن القرار سينعكس على مصالح الشركات والمستهلكين في أميركا.
ووفقا لنائب المدير العام لمعهد الطاقة الوطني الروسي، "ألكسندر فرولوف"، فإن الخطوة الأميركية لن تكون ذات تأثير كبير على قطاع الطاقة الروسي على اعتبار أن الكمية المصدَرة للولايات المتحدة قليلة قياسا على حجم الصادرات الروسية (بلغت نحو 3.09 مليار برميل من النفط والمشتقات النفطية في 2021)، وأشار فرولوف إلى أن واشنطن بدأت منذ نهاية كانون الثاني الماضي بتقليل كميات النفط المستوردة من روسيا، بدورها، رأت الخبيرة في مجال الطاقة "إكاترينا كوساريفا"، أن القرار الأميركي يبدو غريبا نوعا ما نظرا لرفض فنزويلا وإيران تصدير منتجاتهما إلى الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الأوروبي، جددت روسيا التأكيد، عبر مدير دائرة التعاون الاقتصادي في وزارة الخارجية "دميتري بيريتشيفسكي"، أنها لا تعتزم التخلي عن موقعها كمورد موثوق للغاز إلى أوروبا، وجاء ذلك بعد تصريحات لنائب رئيس الوزراء الروسي "ألكسندر نوفاك"، أكد فيها أن بلاده لديها الحق في حظر تدفق الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب التيار الشمالي 1، ردا على حظر مشروع التيار الشمالي 2، لكن المتحدث باسم الكرملين "دميتري بيسكوف"، طمأن إلى أن روسيا كانت ولا تزال وستبقى ضامنا موثوقا لأمن الطاقة في العالم، مشيرا إلى أن القادة الأوروبيين يدركون أن روسيا تفي بالتزاماتها بموجب جميع المعاهدات والعقود القائمة من دون انقطاع وبالكامل، ويتزامن الإعلان الروسي مع تأكيد منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "جوزيب بوريل"، أن الاتحاد لن يحظر صادرات الطاقة الروسية ولا يتبع الرئيس بايدن في هذا الشأن، ولفت بوريل إلى أن الاتحاد يبحث عن بدائل الغاز دائما خصوصا بعد قناعتنا بوجود شريك لا يمكن الاعتماد عليه، في حين نشرت المفوضية الأوروبية خطة لخفض واردات أوروبا من الغاز الروسي بالثلثين خلال عام وإنهائها قبل 2030م، يذكر أن الاتحاد الأوروبي يعد أكبر مستورد من روسيا حيث يستورد أكثر من 60% من صادرات النفط الروسية وحوالي 45% من صادرات المنتجات النفطية.
ويرى الخبير في الصندوق الوطني لأمن الطاقة الروسي "ستانيسلاف ميتراخوفيتش"، أن أوروبا تدفع ثمنا باهظا للغاز، إذ تتلقى روسيا حوالي 700 مليون يورو يوميا ثمنا لهذه الإمدادات، فيما يعتبر المدير العام لمركز أبحاث الطاقة الروسي "كيريل ميلنيكوف"، أن أحد أسباب رفض الاتحاد الأوروبي حظر واردات الطاقة الروسية هو الخوف من ارتفاع أسعار الغاز إلى مستويات ستكون لها ارتداداتها الخطيرة على الاقتصاد الأوروبي، مرجحا في هذه الحالة إغلاقا شبه كامل للصناعة الأوروبية التي تستخدم الغاز (الكيمياء، وإنتاج الأسمدة، ومصانع الإسمنت والمعادن)، محذرا من أن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على الصناعة الأوروبية، ومن المرجح أن يؤدي إلى ركود اقتصادي في الاتحاد الأوروبي، وفي الاتجاه نفسه ينبه عضو لجنة استراتيجية الطاقة والتنمية الروسية "رستم تانكاييف"، إلى أنه في حال فرض حظر على شراء النفط والغاز من روسيا فإن أزمة الطاقة في الاتحاد الأوروبي ستدخل مرحلة حادة، ويلفت إلى أن أي قرار من هذا النوع سيوقف تزويد الكهرباء والغاز للمنازل والمؤسسات الصناعية، وهو ما سيؤدي إلى اندلاع أزمة اقتصادية عالمية وسيكون الاتحاد الأوروبي وكذلك نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ضحاياه الرئيسيين، ولايستبعد تانكاييف أن يؤدي هكذا وضع إلى نقص حاد في الطاقة وتفكك أوروبا، وهو ما حذر منه صراحة رئيس الوزراء البلغاري "كيريل بيتكوف"، الذي أعلن أن بلاده تعتزم مغادرة الاتحاد الأوروبي إذا فرض الاتحاد حظرا على استيراد موارد الطاقة الروسية.
في غضون ذلك، ورغم الحملة الإعلامية الغربية المستمرة للتركيز على النتائج المأساوية للبعد الإنساني في نتائج الحرب في أوكرانيا وجعلها سببا لإضعاف الموقف الروسي، فقد حملت نهاية الأسبوع الثاني من الحرب أول النتائج السياسية التي سعت إليها موسكو بعدما قال الرئيس الأوكراني "فلاديمير زيلينسكي" إن الرهان على الانضمام الى حلف الناتو قد سقط بالضربة القاضية ولم يعد على جدول أعمال أوكرانيا، ولذلك لامانع من التفاوض على إعلان الحياد مقابل ضمانات دولية تريدها أوكرانيا لمستقبل حدودها مع استعداد مسبق لبحث مستقبل جزيرة القرم من جهة وجمهوريتي دونباس من جهة أخرى، بينما بقي التقدم الهادئ في العملية العسكرية الروسية موازيا لترتيبات إجلاء المدنيين من المناطق المحاصرة وسط نجاح روسي بوضع قضية مختبرات الأسلحة البيولوجية التي كشفت عن قيام واشنطن بإنشائها في أوكرانيا كبند أول على الطاولة مع توزيع نسخ من الوثائق المكتشفة على الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي ومنظمات الأمم المتحدة المعنية.
حلف الناتو بدأ مرتبكا بعد تصعيد إعلامي وسياسي تحت عنوان دعم أوكرانيا بالسلاح، فمن جهة بدأ الحديث عن المخاوف من فوضى إرسال وتخزين وتوزيع الأسلحة القابلة للحمل والنقل كصواريخ ستينغر والخشية من خروجها من تحت السيطرة وتسربها الى أسواق السلاح السوداء ووصولها إلى أيدي جماعات مناوئة للغرب، ومن جهة مقابلة تسبب الحديث عن منح أوكرانيا طائرات مقاتلة بإرباك أميركي - بولندي، اضطرت معه واشنطن لسحب الموضوع من التداول تحت عنوان لا نريد مواجهة مباشرة مع موسكو، بينما خسرت كييف الرهان على استخدام مطارات رومانيا وبولندا لإقلاع وهبوط مئة طائرة حربية تمتلكها أوكرانيا وتم تهريبها إلى الدولتين الجارتين العضوتين في الناتو تفاديا لتدميرها بعدما تم تدمير المطارات.
في تداعيات العقوبات، بدأت التقارير الأميركية والأوروبية تتحدث عن نتائج عكسية تتمثل باستفادة روسيا من زيادة الطلب على النفط والغاز وارتفاع أسعارهما بحيث سجلت مبيعاتها اليومية ما يقارب مليار دولار بدلا من ثلاثمئة مليون دولار، وتحول السعي لتفادي أزمة في الأسواق عبر تأمين مصادر إضافية لضخ المزيد من النفط والغاز سببا لإضعاف الموقف الأميركي والأوروبي تجاه الخصوم الجذريين الذين ربحوا من العقوبات على مصادر الطاقة الروسية، وسط تداعيات معلومة سلفا لتنامي حضور الدول المناوئة للسياسات الغربية، بينما بدت أوروبا كخاسر أول في ظل ارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الاستهلاكية بدأت تسجلها الأسواق التي شهدت ارتفاعات بين 50% و 150% في أسعار الكهرباء والبنزين والقمح والزيوت التي أصابتها نتائج الحرب الأوكرانية.