عبد الحميد صيام يكتب:

مخماس والحنين لأول منزل

العودة إلى مسقط الرأس بتأشيرة سياحية لمدة ثلاثة أشهر فقط ضرورة حتى لو أنها تنطوي على نوع من الإذلال، فزيارة الفلسطيني للوطن ضرورة وزيارة العربي لفلسطين تطبيع ذميم. لو تجاوزت مدة الزيارة بيوم واحد لمنعت من دخول بيتك وبلدك ووطنك للأبد من قبل مستعمر بولندي أو أوكراني أو إثيوبي أو مستوطن حاقد من بروكلين. عدوك أغلق الأبواب جميعها على وطن بحجم السماء، ووضع حراسا يتفقدون تاريخك وعلاقاتك وأفكارك ونشاطاتك، ويقدرون مدى التزامك بالوطن والتصاقك بشعبك ويقررون السماح لك بالدخول أو الرفض. وإن سمحوا لك بالدخول يقررون من أي بوابة تدخل، وكم يوما مسموح لك أن تزور أهلك وبيتك وأضرحة والديك وأقاربك. تشعر بخنجر حاد يلكزك في خاصرتك وهو يسألك ما الغرض من الزيارة. أي كلمة تقولها قد تثير حنق هذا «العيّل» فيحجزك في غرفة معدة لمثل هذا الاعتقال، بانتظار مرافقتك لأول طائرة تعيدك من حيث أتيت.

* منذ جائحة كورونا لم أزر الوطن لأن الأبواب موصدة، فقد تعودت أن أقوم بزيارتين أو أكثر في السنة الواحدة، بعد أن حصلت على الجنسية الأجنبية التي مكنتني من ذلك تعويضا عن سنوات الحرمان. ومن الموجع أن أجد أن الجائحة قد سطت على أبناء وبنات القرية، وتخطفت منهم الكثيرين. كانوا إما غير قادرين على تناول جرعات التطعيم في فورة انتشار الداء، أو غير مقتنعين بجدوى التطعيم أصلا. فقد استمروا في مراعاة عادات وتقاليد ما قبل الجائحة، كزيارة المرضى والتعزية في الميت، والتجمع لوداع مسافر، ما سهل انتشار الداء وسقوط الضحايا. لقد عزّ عليّ أن أعود إلى البلدة وأجد ثلاثة من أصدقائي قضوا بسبب كورونا، خضر موسى وأحمد عبد العزيز وحسن رابح. كما أفتقد الاستقبال الحار من بنت أختي رتيبة، التي لم تتحمل ويلات المرض فرحلت مبكرة في غير أوانها، والقدر نفسه خطف ابنة خالي ذهبية أم هاني، وابنة خالي بهية أم رسمي، وزوجة ابن عمي الحاجة نازريت أم عصام، البرازيلية الأصل التي اندمجت تماما في المجتمع لغة ودينا وعادات وتقاليد. تلك عينة فقط من ضحايا كورونا، الذين وصل عددهم إلى أكثر من ثلاثين شخصا. عليهم الرحمة جميعا. لقد أخذت الجائحة حصتها من أهل القرية الوادعة بين الجبال شرقي خط القدس – رام الله واسمها بالكنعانية «المكان الخفيّ».

المستوطنات تحيط بالقرية من كل جانب

* تنتشر المستوطنات في فلسطين كداء الجرب، يأكل في موضع صحي حتى يتلفه ثم ينتقل إلى الأجزاء المجاورة لتدمير نضارتها والتهام جمالها. وبلدة مخماس مسورة بالمستوطنات من كل جانب، ولا يوجد إلا مدخل واحد للقرية لسهولة إغلاق المنطقة في حال حدوث أي مقاومة للمستوطنين. وما عدا مستوطنة معاليه مخماس التي أقيمت قبل اتفاقيات أوسلو، والتي التهمت أراضي بلدتنا وبلدة دير ديوان، وتحولت إلى بلدة كبيرة، فباقي المستوطنات أقيمت وتمددت واتسعت أفقيا وعموديا بعد اتفاقيات أوسلو مثل، بسغوت وكوكب يعقوب القريبتين من البيرة. وما بدأ كمحطة وقود على الطريق العام في أراضي البلد الأميرية، تحول إلى مركز إقليمي لكل مستوطنات المنطقة. وقام مستوطنون مسلحون بإضافة جزء كبير من أراضي القرية التي تفصلها عن قرية برقة، وبنوا بؤرة استيطانية تدعى «نفيه إيرز»، حاول أهل القرية أن ينهوا البؤرة باللجوء لقانون المغتصب فكيف يتوقعون العدالة؟ ثم حاولوا بالاشتباكات بالأيدي والحجارة وفي كل مرة يهرع الجيش لحماية البؤرة. أما سوبر ماركت شعار بنيامين غرب القرية في منتصف الطريق إلى جبع، فقد تحول إلى بؤرة استيطانية كبيرة، فيها فندق وقاعة أفراح ومبان سكنية وخدمات عديدة. وعلى بعد أمتار منها مستوطنة آدم، ثم مستوطنة بسجات زيف الكبيرة التي تمتد للقدس. الاحتكاكات مع المستوطنين لم تتوقف، حيث قامت مجموعة منهم بنشر 380 شجرة زيتون قرب الطريق السريع 60، الذي التهم جزءا من أراضي القرية. مخماس عينة عن قرى فلسطين التي أصبحت مطوقة بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية لتقطيع أواصر الوطن بكامله، وحشر الفلسطينيين في كانتونات من كل الجهات وإعطاء فرصة للمستوطنين لإرهاب التجمعات الفلسطينية والتضييق عليهم، وإجبارهم على الرحيل لاستنزاف الوجود الديمغرافي للفلسطينيين في وطنهم.

الاستنزاف البطيء للسكان

* مخماس نموذج للقرى التي استنزفت ديمغرافيا، وأصبح غالبية سكانها يعيشون في المهاجر، خاصة الولايات المتحدة، فهي من البلدات التي يطلق عليها القرى الأمريكية، مثل ديردبوان وترمسعيا. تضيق سبل العيش في الوطن فيضطر بعض الشباب أن يهاجروا إلى العالم الجديد لمساعدة عوائلهم. كانت أمريكا اللاتينية المكان المفضل كدار للغربة مثل، تشيلي والبرازيل وفنزويلا وكولمبيا، ولكن مع تعويم العملات في العالم في عصر الرئيس الأمريكي دونالد ريغان، وانهيار عملات تلك البلدان تجمع الفلسطينيون في الولايات المتحدة، ما عدا جالية تشيلي المتجذرة في البلاد منذ بدايات القرن العشرين. بدأت الجالية الفلسطينية تكبر في الولايات المتحدة في السنوات الثلاثين الماضية، إضافة إلى الأجيال التي ولدت في المهجر. وأستطيع القول بكل ثقة إن الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة تضم ثالث أكبر تجمع للفلسطينيين في العالم بعد فلسطين التاريخية والأردن، وقد يزيد العدد عن ستمئة ألف. قريتي واحدة من مكونات الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة، حيث يوجد على الأقل ثلثي سكان البلد في ولايات نيويورك ونيوجرسي وبنسلفانيا وأوهايو. في فصل الشتاء تحس أن القرية شبه خاوية، لكن في فصل الصيف يعود المغتربون وعائلاتم إلى البلدة فيتضاعف عدد ساكنيها وتدب فيها الحركة والتجارة واستئجار السيارات والأعراس الصيفية. وقد تنافس أبناء البلدة في بناء البيوت والفلل الجميلة. وكنت من المعترضين على هذه الظاهرة، إلا أنها أصبحت وسيلة ارتباط بالوطن للوالدين أولا وللأولاد والأحفاد من بعدهم. بناء بيت في القرية أصبح واجبا وطنيا وتعزيزا للصمود وإيمانا بالمستقبل.

* ارتباط الفلاح الفلسطيني بالأرض لا مثيل له. إنها أرضه وعرضه وشرفه وكرامته. وأتحدى سكان المستعمرة الصهيونية أن يعرفوا معنى لكل مفردات الفلاحين التي يطلقونها للتمييز بين كل تشكيلات الأرض الزراعية، فمن يعرف معنى الشِعب (وجمعها شِعاب) والمارس والحَبَلة (وجمعها حبايل) والخلّة والقسمة والمرج والحاكورة والمقثاة، إلا أبناء هذه الأرض الذين التصقوا بها لآلاف السنين، وأصبحوا يشبهون لون الأرض، وليس كالذين اخترعوا خرافة العلاقة الربانية معها لغياب أي دليل مادي واحد يشير لتلك العلاقة.

* وأتحداهم مرة أخرى إذا عرفوا أسماء وفوائد واستعمالات الأعشاب والنباتات والشجيرات البرية، التي ارتبطت بحياة الفلاحين في فلسطين. فمنها ما هو للدواء كالشيح والشومر والميرمية والجعدة والبابونج والقريص وغيرها، ومنها ما يستعمل للغذاء كالزعتر وورق اللسان والعكوب والبقيلة (أو الخبيزة) واللوف الذي كان يحبه والدي ويصر على أن من يأكل منه لا يصاب بوجع البطن أبدا، والقطف والعلك والصنيعة وغيرها. ومنه ما هو للتسلية والأكلات الخفيفة كالسعيسعة والبريدة والجلبانا والمرار والجلاثون والكركسون، ومنها ما يستعمل لأكل المواشي كالطيون والعرّ والقصب والشبرق، ومنها يستخدم للروائح الزكية كالحندقوق ورائحته العطرة وقيل إنه انقرض من فلسطين تماما. وكنت أذكر أن الأمهات كن يعملن منه مخدات للأطفال لروعة رائحته النادرة، حيث ذكرها الفن الشعبي في الأهازيج: «شامم ريحة حندقوق أخذت عقلي هاللي فوق»، أما النرجس البري فكنا نتسلق الصخور ونطوف في الوديان الوعرة لجمعه لرائحتة العبقة وقد علقت أنا وصديق الصبى يوسف لساعات في قرنة وعرة كان النزول سهلا لكن الصعود وأيدينا تضم باقة النرجس مخاطرة كبيرة. الأغراب الآن باشروا زراعة كثير من النباتات والأعشاب البرية لتصديرها. وقد علمت أن بعض المستوطنات متخصصة في سرقة زراعة الزعتر وغيرها وكأن لهم علاقة بها. يبيعون الآن في نيويورك الفلافل والحمص والمفتول على أنها مأكولات إسرائيلية. يسطون على التاريح والجغرافيا والتراث والثقافة والأغاني، كما سطا موسى بن ميمون على بحور الشعر التي وضعها الخليل بن أحمد وطوعها للشعر العبري.

* وحنينه أبدأ لأول منزل
زرت المدن جميعها في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها. طوفت في الآفاق وزرت أكثر المدن فقرا وأكثرها غنى. أحببت مدنا كثيرة مثل كيبتاون وإدمنتون، وبيجين ودلهي، ولوزان وتورينو وبودابست وسيدي بو سعيد، والمنصورة وأسمرة، وبغداد ودمشق وكابل وبيشاور وهبروني وبويبلا وهافانا وباكو والدوحة وفاس وغرداية وأربيل وشتورة وغيرها المئات، لكنني لم أجد أجمل أو أدفأ من حضن الوطن ومرابع الصبا وذكريات الطفولة، ونحن نطارد العصافير ونجمع الأزهار البرية ونشرب من مياه الشلالات والوديان، ونسبح في عين الفوار وننام مع رعاة أغنامنا في كهوف القرية. تلك مرابع الصبا ظلت في القلب «بمنزلة الربيع من الزمان» حاضرة في الغياب نحملها في قلوبنا أنّى توجهنا. لا شيء يعادل الوطن، فالذي «ما له وطن ما له في الثرى ضريح». يطير الطائر بعيدا ويغرد على أكثر من شجرة لكن حنينه أبدا لأول منزل.