تاج الدين عبد الحق يكتب:

ما معنى البيان السعودي؟

بالرغم من الطابع الفني لبيان التحذير السعودي من نقص محتمل في الإمدادات النفطية السعودية، في حال استمرت الهجمات الحوثية على المرافق البترولية في المملكة، فإن البيان في جوهره بيان سياسي بامتياز، ويحمل الكثير من المعاني والدلالات.

فالبيان جاء بمثابة رد عملي على أولئك الذين اعتادوا التشكيك في مواقف المملكة، تجاه القضايا الإقليمية والدولية، واعتبار هذه المواقف صدى لإملاءات خارجية، أو تنفيذًا لأجندات ومصالح أجنبية، على حساب المصالح الوطنية السعودية.

وبهذا المعنى، فإن التحذير السعودي من إمكانية حدوث نقص في الإمدادات، وضع المصالح السعودية كأولوية، في علاقاتها الدولية، وفي كيفية تعاطيها مع الأزمات التي تواجهها تلك العلاقات.

كما أنه يمثل ردًّا  غير مباشر، على ضغوط أمريكية وغربية – باتت معروفة – على السعودية ودولة الإمارات من أجل حملهما على زيادة إنتاجهما النفطي، لتعويض النقص المحتمل في الأسواق العالمية وإعادة الاستقرار للأسعار.

ويبدو أن تلك الضغوط لم تكن مقبولة، لا شكلا ولا موضوعا، وانعكس ذلك في مستوى الاستجابة الخليجية، وتباطؤ التعاطي معها.

فالسعودية ومعها دولة الإمارات، التي عانت من تجاهل واشنطن للمخاوف الخليجية، تجاه الأزمة اليمنية، وتجاه الملف النووي الإيراني، وقضايا إقليمية أخرى تهدد أمن المنطقة واستقرارها، تجد في المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة وروسيا من جهة ثانية، فرصة لرسم حدود، لما تعتبره المملكة ودول الخليج مصالح وطنية وما يمكن اعتباره جزءا من التزاماتها السياسية الدولية.

تقاطع المصالح، الذي كان السمة الغالبة على العلاقات الخليجية الغربية في كل ما مرت به العلاقات الخليجية الغربية، فُسّر دوما تفسيرًا تآمريًّا، واعتبره كثيرون تواطؤًا خليجيًّا مع الغرب، على حساب مصالح وطنية، أو استجابة لضغوط سياسية مجردة.

وحتى المؤشرات العديدة التي أظهرت، في السنوات الأخيرة، تباعدًا في تلك المصالح وفي الأولويات، لم تكن كافية لإظهار الدبلوماسية الخليجية بمظهر القادر على المناورة، والمستعد لمواجهة الضغوط، وتحمّل المخاطر والتبعات.

التحذير السعودي من نقص الإمدادات النفطية، فيه إشارة واضحة لما تعتبره السعودية مصلحة وطنية تتقدم على أي التزام دولي، وفيه تأكيد أيضًا أن هناك أثمانًا على الآخرين دفعها والوفاء بها، إن هم أرادوا رسم علاقة أكثر تكافؤًا وأكثر استقرارًا وديمومة.

فمركز دول الخليج، ومكانتها في خريطة التوازنات الدولية تتعزز، وتتأكد باستمرار. والذين راهنوا على تراجع الأهمية النسبية للموارد النفطية الخليجية، يجدون مع أول اختبار جدي للمواجهة الجارية بين الغرب والاتحاد الروسي، أن النفط الخليجي لا يستعيد مكانته في الأسواق العالمية فحسب، بل إنه يستعيد دوره السياسي، وتأثيره في توجيه السياسات الدولية.

ويبدو أن الدبلوماسية الخليجية وهي تستثمر حالة الاضطراب في الأسواق العالمية، تنتهج أساليبَ تؤتي أوكلها، خاصة مع تقاطر الزائرين الغربيين لدول المنطقة، وتكاثر الاتصالات مع المسؤولين فيها، والسخاء في الإنصات لهم، وتفهم ما كانوا يتجاهلونه لوقت قريب.

وعلى خلاف ما قد يعكسه تواتر الأحداث والاتصالات، فإن دول الخليج لا تتصرف بالملف النفطي تصرفا انتهازيا. فالانتهازية، مهما كانت مغرية في نتائجها، عمرها قصير، ولا يمكن لها أن تؤسس لعلاقات مستقرة وطويلة الأمد، تتجاوز في مداها الغمامة السوداء التي تظلل علاقات الشرق والغرب حاليا.

كما أن الانتهازية تحمل في ثناياها طابع الإحلال، بمعنى أن حصد نتائج سريعة من حالة طارئة ومستجدة كحالة الحرب الروسية على أوكرانيا، وما قد تحملها من نتائج في المدى القصير، فيه رهان على مصالح أساسية وكثيرة مع جناحي المواجهة، بحيث يصبح الحفاظ على المصالح التي ترتبط بها مع هذا الفريق، على حساب المصالح بالفريق الآخر.

البيان السعودي الأخير ومِن قبله وبموازاته، ما شهدته الدبلوماسية الخليجية من نشاط، يعطي مساحة واسعة للدور المنتظر لدول المنطقة. فإلى جانب الثمار المتوقعة على صعيد حماية المصالح الوطنية، فثمة تعزيز للدور الدولي المنتظر لها؛ ما يجعلها ضمن اللاعبين الكبار لا في تأجيج الصراعات بل في إيجاد مخارج وحلول لها.