فاروق يوسف يكتب:

القاهرة التي لا تجيب على أسئلة الآخرين

القاهرة لمَن لا يعرفها قارة أفكار وأشكال وأحداث وصور وتجليات وأحلام وتأمل وفقر وغنى من كل الأنواع وتلاقيات بين النقائض ومكائد وصراخ واحتمالات مفتوحة على مختلف الاتجاهات. مدينة قوية بسعتها وضعيفة لنفس السبب. يمكنك أن تراها من زوايا لا تتوقع أنها موجودة. مدينة مدن لا يشبه بعضها البعض الآخر. ولأن السير فيها بطيء فإن تحولاتها المعمارية تصطدمك، ذلك لأنها تنبئ بولادة صور جديدة لها في أية زيارة مقبلة. ستزورها كما لو أنك لم تعرفها. مدينة عتيقة غير أنها تتجدد كل لحظة. حتى نيلها يتجدد. ما يحيط به سيهبه صفات أخرى سيرتقي به باعتباره نهرا خالدا.

المصريون لديهم معايير للتعامل مع مدينتهم لا يعرفها الزائر الذي يعجب: لمَ يحب الغرباء مدينة يغطيها التراب في كل الأوقات؟ إنها مدينتهم التي تكتظ بالغرباء الذين يضيعون بين تفاصيلها. ليس الأزهر والحسين وخان الخليلي والغورية وشارع المعز سوى تفاصيل صغيرة من عمارة أفقية، إن مشيت بين شوارعها تتعب من غير أن تكف عن السؤال الذي يلهث في أعماقك. هناك القاهرة النائمة تحت ترابها اليومي الذي يُرى مباشرة وهناك القاهرة التي لا تنام وهي قاهرة الأغنياء والفقراء معا. قاهرة تقهر مَن يزعم أنه قبض على أسرارها وصار في إمكانه أن يمنع باب زويلة من التحليق كل لحظة في فضائه الخاص.   

ليست القاهرة مدينة يسيرة ولا سكانها قابلون للوصف. يمكنك أن ترى كل شيء من غير أن تكون متأكدا من أنك رأيت شيئا يمكن أن تصفه إلا إذا رغبت في الاحتيال على نفسك. ليست القاهرة هي الشيء نفسه. صباحها ليس كمسائها، ومساؤها يتخطى ليلها. اشتريت قنينة ماء من صاحب كشك في شارع المعز وسألته عن بناية تقع قبالة كشكه فقال لي "لولا فاروق حسني لما كانت موجودة". لعب الرجل بالأزمنة وهو ما فعله ويفعله المصريون كل لحظة. المكان نفسه في احتمالات مختلفة تبعا لزمن الحكاية. كل غموض العصور التي مرت بها يبدو فاتنا وسط حكايات رجل بسيط يثق بما يقوله كما لو أنه قد أمسك بالحقيقة المطلقة من قرنيها وروضها.

لا يشكو القاهريون من ضيق المكان لئلا يلوموا أنفسهم لما فعلوه بمدينتهم التي هي عبارة عن طبقات. فتنة العيش فيها تُنسي المرء في أي طبقة يقيم. هناك ضجيج هو انعكاس لهذيان داخلي عنيف يُعبَر عنه بطرق مختلفة من أجل تخطي العنف الذي يفتته الجميع بالضحك. ما هذا الضحك الذي لا يشبه أي ضحك آخر؟ في مطعم شعبي يقع قريبا من الغورية انحشرنا وكنا ثلاثة إلى جانب فتاتين من الفيوم على منضدة واحدة. كنت أشعر بأنا تطفلنا على عزلتهما فإذا بواحدة منهما تمحو بمرح هادئ شعورنا بالاحراج وتعيدنا إلى العائلة. كنا في تلك اللحظة أشبه بعائلة قادمة من الفيوم بسلال حكاياتها المعطرة بروائح فاكهة طازجة. قدرة المصري على كسر الحواجز واختصار المسافات عن طريق المرح استثنائية من غير أن يكون ذلك المرح مفتعلا أو يتخلله أي نوع من التهريج.

القاهرة هي مصر. هكذا هي بالنسبة للمصريين الذين يمكن أن يجردونها من كل ألقابها من أجل أن تبقى أم الدنيا. وأم الدنيا تلك هي أم أبنائها اولا حين يقرأ المرء أسماء شوارعها فإنه يتعرف على أسماء أبنائها الذين ساهموا في صناعة تأريخها. ولأن القاهرة مدينة كبيرة فإن شوارعها لا تعد ولا تُحصى وكذلك هم أبناؤها. لا أعتقد أن هناك مدينة تضاهيها بتلك الصفة. أقمت في الزمالك في شارع يتقاسمه اسمان "أبو الفدا" و"أم كلثوم" كانت المعنية المصرية تقيم فيه. لم يعد البيت الذي أقامت فيه موجودا هناك غير أن ذلك لم يمنع من التذكير بأنها عاشت هناك فاقتطعوا جزءا من شارع ابو الفدا ليضعوا عليه اسمها. المصريون أوفياء لتاريخهم، بل أنهم يبالغون أحيانا في ذلك الوفاء والاعتزاز بشخصيتهم. قال لي سائق تاكسي إن محمد صلاح قد تعرض لضوء ليزري موجه من محطة فضائية فأخطأ تسديد ضربة الجزاء في اللعبة مع السنغال. شيء من هذا القبيل يمكن أن يقع كل لحظة تسلسل فيها الحكايات الشبيهة بالعشوائيات التي خربت صورة القاهرة وخرائطها وسبا التفكير جغرافيا بها.

"دي حكاية" يقول لك المصري تعليقا على أي سؤال. ولأنك تعرف أن الحكاية طويلة وقد تستغرق روايتها الوقت كله فإنك تتمنى أن تكتفي بلذة السؤال. فالقاهرة مدينة أسئلة تبقى عالقة بين أجوبة ناقصة.