جميل مطر يكتب:

العالم نحو مصير غامض

أخمن أن الغموض يخيم على أحوال الأمم فى كل بقاع الكوكب وأنه باق لفترة قد تطول. لا أعنى إطلاقا أننى أتوقع تدهورا أشد فى العلاقات على قمة النظام الدولى كشرط تاريخى لقيام وضع جديد تماما. لا محل عندى للتشاؤم فى هذه اللحظة المفصلية فى تاريخ العلاقات الدولية. وأسبابى واضحة. فالتدهور الراهن شديد إلى درجة أتصوره صار كافيا لتلبية شرط التغيير كما صاغته العصور السابقة. هناك حرب عالمية ناشبة بالفعل، حرب متعددة الجبهات والأسلحة، حرب شاملة أصابت البعيد والقريب إلى حد لم تعرفه الحروب العالمية السابقة. ففى تلك الحروب كانت تدور بين الدول العظمى بشكل أساسى فى مواقع نشوبها ومصالحها ومناطق نفوذها الجيوسياسية. المثال على ما أقول هو الحرب العالمية الأولى أو مثال حروب أوروبا عبر العصور والحروب على أراضى الصين على امتداد التاريخ. توسعت الميادين فى الحرب العالمية الثانية بسبب مشاركة اليابان ولكن فى النهاية خرجت أقاليم كثيرة سليمة بدون ضرر شديد أو آثار حاسمة. ولهذا السبب، وأقصد كون ميادين الحرب أوسع من كل سابقاتها، أسفرت الحرب العالمية الثانية عن شكل جديد للعالم ونظام مبتكر لإدارته وقواعد لتنظيم سلوكيات أعضائه من دول وعقائد وتيارات.

لا شك أن بعض هذه الترتيبات والأوضاع الناجمة عنها تطورت، بعد أقل من ثلاثة عقود، تلقائيا أو بفعل قوى فاعلة ومؤثرة فى اتجاه تعميق عناصر بعينها، وقد أسفرت التطورات عن نقلة حازمة وشاملة فى اتجاه عولمة العلاقات الدولية ومبادئ التعامل بين البشر؛ مثلما فى نظم التجارة والاتصالات والنقل وغيرها كثير. هنا صار ممكنا إتاحة الفرصة أمام الصين لتستفيد من حال عولمة الاقتصاد وأساليب الحشد الداخلى وحاجة الرأسمالية الغربية إلى أسواق جديدة واسعة، وبالفعل وفى سنوات معدودة انتقلت الدولة النامية الأكبر فى العالم إلى مصاف الدول الأغنى والأعظم.

المثير فى هذه المرحلة الثورية فى تاريخ العلاقات بين الدول أن الدولة الأعظم التى قادت مسيرة العولمة وبدت مستفيدة منها فى كثير من نواحى القوة كانت هى الدولة التى قادت التمرد على العولمة عندما اكتشفت أن خسائرها ونواحى تدهورها فاقت كل مكاسبها. اكتشفت مثلا أن المعسكر الغربى ممثلا فى حلف الناتو وقواعد ومنظومة قيم ومصالح صار عبئا عليها. اكتشفت أيضا أن ميزان القوة فى القمة الدولية اختل لصالح الصين ولصالح فرصة متاحة تستعيد بها روسيا بعض ما فقدت من مكانتها فى تراتيب القمة وفى الهيمنة الإقليمية.

أتصور أن الاكتشاف الأهم حدث عندما حصلت الولايات المتحدة على فسحة زمنية تصورت النخبة الحاكمة الأمريكية وقتها أن أمريكا سوف تقود العالم منفردة لقرن كامل أو أكثر، وأن النظام العالمى صار ولأول مرة منذ عصور الإمبراطوريات العظمى كالأثينية والرومانية أحادى القطبية. كانت المفاجأة الصاعقة حين اكتشفت قيادات هذه الطبقة ومؤسساتها بعد سنوات معدودة أنها عاجزة عن ممارسة القيادة منفردة كما جاء فى الحلم الأمريكى. من ناحية كان الصعود الصينى يحدث بمعدلات غير مسبوقة، من ناحية أخرى كانت روسيا رغم ضعفها فى عديد المعايير تستعيد أيضا هيمنتها الإقليمية بسرعة تناسبها. من ناحية ثالثة، ولعلها الناحية الأهم والأسبق، كانت معدلات التدهور فى هياكل الدولة الأمريكية أكبر وأسرع مما كان فى توقعات قيادة الطبقة السياسية. من ناحية رابعة، كانت الشقوق داخل الحلف الغربى تزداد عددا وعمقا حتى صارت تهدد مكانة الولايات المتحدة فى مواجهاتها مختلف عناصر التهديد لزعامتها.
• • •
ظهر تدهور مكانتها واضحا فى عديد الصور، ظهر أولا: فى سباقها مع روسيا فى الشرق الأوسط، ثم انسحابها الجزئى ثم عودتها متعاونة. ظهر ثانيا: في عجزها عن الاستمرار فى نقل تركيزها الاستراتيجى من الشرق الأوسط إلى آسيا والشرق الأقصى بخاصة. ظهر ثالثا: فى التغير الملحوط فى استراتيجيات مفاوضاتها مع إيران، وما نتج عنه من انشقاق من جانب إسرائيل ودول الخليج اعتراضا ثم احتجاجا على الموقف الأمريكى. ظهر أيضا ورابعا: فى عجز واضح عن التعامل بحزم أو بتفهم مع الدول الأعضاء فى منظمة الأقطار المصدرة للنفط وبخاصة مع التقارب الخليجى الروسى فى التصدى لطلب أمريكا زيادة معدلات الإنتاج لخفض سعر الطاقة بالنسبة للمستهلك الأمريكى. ظهر خامسا: فى فشل القائمين على تنفيذ سياسة أمريكا الخارجية تجاه روسيا والأزمة الأوكرانية، فشلوا فى إقناع معظم دول العالم النامى وبعض دول الحلف الغربى فى سلامة مواقفهم وسياساتهم رغم عدالتها، نكأوا لدى دول العالم الثالث وبخاصة فى آسيا والشرق الأوسط جروحا لم تندمل خلال الغزوات والتدخلات الأمريكية فى شئونها الداخلية، تفادوا تحميل الأمريكيين الآثار الاقتصادية للحرب بينما ضغطوا لتحميل المواطنين الألمان والفرنسيين وغيرهم الكثير من الأعباء. تبنوا عدالة فى الموقف والمبدأ من الغزو الروسى ولكن لم يعدلوا فى توزيع الأعباء، خاصة وأنه صار يتضح كل يوم للرأى العام العالمى أن القضية برمتها وفى أساسها صراع من صراعات الدول العظمى اختارت أوكرانيا ميدانا له.
• • •
لا جدال أن الثقة فى العمل الجماعى الدولى تدهورت إلى حدود دنيا، بمعنى آخر سوف يكون صعبا أو معقدا استخدام مؤسسات ومبادئ الأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو حماية حقوق الإنسان. لذلك يبدو منطقيا ما تلجأ له دول للاستغناء عن العمل الجماعى إلى إقامة تحالفات مرنة أو وقتية أو نوعية تفى بغرض محدد وتنفض على إثر تحقيقه. كذلك لا أستبعد أن ينتقل عدم الثقة فى التنظيم الدولى إلى التنظيم الإقليمى. أرى بكل الوضوح هذه العدوى وقد امتدت إلى جامعة الدول العربية. صرنا فى منطقتنا نمارس كل أنواع العمل الخارجى، نفضل العمل الثنائى والمتعدد ولكن المؤقت أو لغرض محدد، نفضله مع طرف غير عربى وربما مع طرف غير مؤتمن على الثقة أو التحالف، نفضله على علاقة شبه ميتة تحت مظلة التنظيم الإقليمى ومؤسساته. وفى رأيى أن هذا التفضيل وإن أثمر فوائد عاجلة أو محتملة كفيل بأن يسهم على المدى المتوسط فى تعميق حالة الفوضى فى العلاقات الدولية الناتجة عن فقدان الثقة فى مؤسسات الأمم المتحدة والقانون الدولى والمنظمات الحقوقية، والناتجة أيضا عن حالة السيولة فى النظام القطبى، وأقصد العلاقات المتدهورة بين الأقطاب فى عالم اليوم، وهى العلاقات التى لا تبشر بنهاية عاجلة للفوضى السائدة حاليا.

لن تتتوقف الفوضى إلا بعد أن تحصل الصين على مكانة تليق بها وتقبلها، وبعد أن تتوقف روسيا عن استخدام العنف لاستعادة نفوذها فى الإقليم، وبعد أن تستعيد أمريكا الثقة فى قدرات أبنيتها الداخلية وتعترف بأن زمن ريادتها أو هيمنتها كاد ينتهى.