د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

هل أنا غريب في وطني ؟!!

الغربة في الأوطان - قال العلّامة العربي المتصوف أبي حيان التوحيدي :
"الغريب الحق هو ليس الذي نأى عن وطن بني من ماء وطين وفقد أهله وأحباءه، إنما الغريب هو ذلك الإنسان الذي يعيش في وطنه غريبا"
وقد عشت هذه التجربة بعد غربة استمرت سنوات عندما عدت لزيارة مسقط رأسي الصعيد بالعوالق العليا ولمدينة عدن بعد الوحدة اليمنية ووجدت كل شيء قد تغير الى الأسوأ ففي الصعيد قابلت أحد كبار السن في الطريق وسلمت عليه وصدمني بقوله متسائلا :
لماذا عدت وماذا تريد من هذه البلاد ؟ !!
وكأن لسان حاله يقول : أنت ليس مرحبا بك في هذه البلاد أو عد من حيث أتيت !! فتعاملت مع الموقف بأدب لرجل في سن أبي وذهب كل منا الى حال سبيله وفي اليوم الثاني مباشرة إذ بالرجل يرسل ابنه ويدعوني أنا وأقاربي للغداء في منزله ولبيت الدعوة وحضرنا وإذ بالرجل قد تبدل حاله وكلامه وأفرط في التأهيل والترحيب بي وكأنه أراد أن يمحو ما قاله لي بالأمس !!
والموقف الثاني : استأجرت بيتا في المنصورة من أحد الأصدقاء للعائلة لأشهر الصيف الثلاثة وكان الجو حارا والرطوبة عالية جدا وأدخلت عليه بعض التعديلات والدهان على حسابي الخاص وسمعت أحد الجيران من عدن يتكلم مع العمال ويقول : وين فلوس هذا الرجل كم له في الغربة ما قدر يسوي بيت لعياله ؟ الخ من الكلام المشحون باللوم والتقريع وهو لا يعرفني ولا أعرفه وعندما خرجت عليه من الحوش بلع لسانه ثم عاد يسهل ويرحب بي وهو لا يعرفني ولا أعرفه وقلب الموجه وتجاوزت كلامه وكأنني لم أسمع شيئا مما قاله !! إن الاغتراب في الأوطان يولّد أشد أنواع المشاعر الإنسانية وأكثرها ألماً وربما تكون الغربة عبر السفر أو الهجرة خلاصاً فردياً من الضغوط المتولدة عن الظروف والصراعات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية في بلداننا، وبسبب واقعها المقيت دفعت بهجرة حوالي 35 مليون مواطن عربي يمثلون حوالي 8 في المئة من سكان الوطن العربي. الكثير منهم أصحاب كفاءات علمية وتخصصات استراتيجية تسببت بخسارة للعرب تقدر بحوالي 200 مليار دولار وفق التقارير الصادرة عن الجامعة العربية.
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، انتعشت الأفكار القومية في المنطقة العربية وتبلور مشروع قومي عربي، ورفع القوميين العرب شعار النهضة العربية في مواجهة الاستعمار الغربي والرجعيات العربية. إلا أن من سوء طالع الشعوب العربية أن هذا المشروع الذي دعا أصحابه إلى النهوض قد انتكس بداية من هزيمة حزيران العام 1967 التي كرّست الاحتلال الإسرائيلي لأراض من ثلاث دول عربية. ثم ظهرت الأفكار اليسارية والماركسية والثورية، وجدت تعبيراً عنها في الأحزاب والقوى التي سعت بصدق ورومانسية نحو تغيير الواقع لكنها فشلت في تحقيق تطلعات الناس. استفاد الإسلام السياسي من مربع الفراغ بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية تسعينيات القرن العشرين، وانتهاء الحرب الباردة، ليعيد طرح مشروعه كبديل مقبول محلياً على أنقاض المشروع اليساري، إلا أنهم خلطوا الأوراق بين الدعوي والسياسي، وأثاروا أسئلة عند الشعوب أكثر مما قدموا حلولاً. ولم تستطع معظم الأنظمة العربية أن تكون الحاضن الطبيعي لشعوبها من خلال بناء دولة القانون والمواطنة. ثم جرت محاولة تقويض المشروع الفلسطيني الذي اعتبر رأس رمح للشعوب العربية، وتم تشتيت القوة الفلسطينية في عدة دول عربية بعد خروجها من بيروت العام 1982. وتعرض الإنسان العربي لانكسار آخر حين أقدم العراق على احتلال الكويت، وقيام الغرب والولايات المتحدة باحتلال بغداد. وخلال السنوات الماضية عانت وماتزال شعوب عربية كثيرة من الاقتتال الداخلي الدموي. فوجد الإنسان العربي نفسه أمام حلقات متواترة من الانتكاسات، حتى لا تجد دولة عربية واحدة على علاقة طبيعية ودية مع دولة عربية أخرى، ناهيك عن انقسامات عامودية وأفقية، عرقية ومذهبية داخل كل قطر عربي على حدة، وما زالت الهزائم العربية تتوالى ليومنا هذا. فكيف لا يشعر الإنسان العربي بالاغتراب والإحباط وانقطاع الأمل.
من مشرق العالم العربي إلى مغربه يشعر العرب في معظم الدول بالخيبات التي لا تتوقف، ويسيطر عليهم القنوط وعدم الثقة بأنظمتهم ولا بالأحزاب السياسية ولا بالأيديولوجيات ولا بالقيادات التي فشلت طيلة عقود طويلة في إنجاز أي من مهام المشروع النهضوي العربي، إلا أن روافع النهوض وأدواته وبرامجه والرؤى الاستراتيجية جميعها غابت عن أصحاب المشروع الإصلاحي في العالم العربي من اليسار ومن اليمين إن جاز لنا أن نسأل عن الأسباب التي تجعل المواطن العربي يشعر بالاغتراب في وطنه وبين أهله ووسط مجتمعه، فإن تعددت المسببات وتشابكت إلا أنها تتجلى بصورة واضحة فكيف لا ينتاب المواطن العربي الشعور بالاغتراب في وطنه وهو لا يكاد يجد قوت يومه، ويعاني الأمرين لأجل تعليم أبنائه، يكابد ضنك الحياة وارتفاع متزايد في تكاليف المعيشة الأساسية، يجد نفسه مطحوناً وسط حلقة مغلقة من التجاذبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يعيش في مجتمع يعاني من نكوص فاضح في الخدمات العامة، وشيوع الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية، استفحال ظاهرة البيروقراطية الإدارية والروتين في كافة مفاصل الدولة والمجتمع.
كذلك تفشي الإرهاب الفكري والسياسي والديني، في مناخات لم يعد كافياً رفض الآخر وعدم الاستماع له، بل أصبح البعض يتبنى ثقافة الإقصاء والاستئصال وإلغاء الآخر كلياً وفعلياً. انتشار الصراعات الداخلية والمذهبية والعرقية والطائفية، وعلو قيم القبيلة والملل فوق قيم المواطنة والقانون، معاناة تسببها ثقافة الجهل والتعصب والتشدد في مجتمع لا يقيم للإنسانية اية أهمية، لا للمرأة ولا للطفل ولا للعجوز، لا إمكانية لرعاية المبدعين، ولا وجود لمراكز أبحاث حقيقية، ولا يصرف على البحث العلمي، مجتمع فاقد لكافة المعايير
قيام معظم الأنظمة العربية بتهميش المواطنين جعل الشعوب تضيق ذرعاً وتتوقف أمام مكانتها وقيمتها ودورها في المجتمع، وتدفع الناس للتساؤل عن هويتهم، من نحن؟ ومن الآخر؟ وفي أي دول نعيش؟ وإلى أين تقودنا هذه الأنظمة المتهالكة؟
وبالرغم من عمق أزمته الإنسانية الكبيرة فأن المواطن العربي لم يفقد ثقته بالمستقبل تماماً، وعلى الدوام كانت معظم الشعوب العربية تعيش حالة من التيه والضياع والتشرذم بين السلطة الدينية التي يفرضها عليهم رجال الدين، وبين سلطة الموروث الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد، وبين السلطة السياسية بكافة أدواتها ورموزها، وبين الأحزاب السياسية التقليدية أو المعارضة، وبين أحلامهم الشخصية وتطلعاتهم الفردية.
لا أحلامهم تحقق شيء منها، ولا الأنظمة أصبحت ديمقراطية، ولا الموروث الاجتماعي اندثر رغم مظاهر الحياة الحديثة، والسلطة الدينية جزء منها أصبح متطرفا ضد السلطة السياسية وضد البشر أنفسهم، والأحزاب السياسية في حالة موت سريري، وبعضها مصاب بشلل دماغي، ولم يبقى حياً فيها سوى اسمها وبعض الأدبيات الحزبية. لكن حركة التاريخ لا تتوقف، ولا يمكن للشعوب العربية أن تحلم وتسعى لتحقيق تطلعاتها في حياة بسيطة كريمة، لا يحتاج فيها أستاذ الجامعة إلى ذل الاستدانة، دون الارتقاء بمستوى الوعي الاجتماعي لهذه الشعوب،
الصدع الكبير الذي يصيب أوطاننا العربية هو الاغتراب داخلها وفيها ويؤدي إلى تفسخ الرابطة بين الفرد والمجتمع، والصدع الأكبر هو نزيف الأدمغة العربية المستمر نحو الغرب. وهنا لا نعني بهجرة العقول والمثقفين من الوطن العربي فقط حملة الشهادات الجامعية العليا من الدكتوراه والماجستير، بل نعني جميع الكفاءات والخبرات في مختلف الميادين الإنسانية والعلمية في الطب والهندسة والاقتصاد والإعلام والفنون.
إذ يشير التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية والعربية الصادر عن جامعة الدول العربية لعام 2014 إلى أن ما يقارب من نصف الأطباء و23 بالمئة من المهندسين، و15 بالمئة من العلماء العرب هاجروا إلى دول أوروبية وإلى الولايات المتحدة وكندا.
هذا النزوح المستمر للعلماء والخبرات من المنطقة العربية سوف يوسع الهوة الحضارية والعلمية بين العرب والدول الغربية أكثر فأكثر. ويؤدي إلى تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية، واستمرار استيراد الخبرات الأجنبية إلى بلداننا لسد النقص الحاصل، والتكلفة الاقتصادية المالية المرتفعة التي نسددها لهم. كما أن هجرة العقول العربية سوف تتسبب كذلك في انخفاض مستويات التعليم الجامعي نتيجة النقص في المؤهلات الأكاديمية والبحثية. وتؤثر في قدرة العرب على الربط بين المستويات التعليمية والحالة الثقافية من جهة وبين متطلبات خطط التنمية من جهة أخرى.
إن الأمم التي تحترم وترعى علمائها ومفكريها وخبراتها الوطنية تكون قوية بهم، ولأننا لا نقدر ولا نكرم المثقفين والعلماء فإننا لسنا أقوياء علمياً ولا اقتصادياً ولا حضارياً. وما دامت الأسباب التي تقف خلف هجرة الناس وخاصة العقول والكفاءات العلمية من بلداننا، وفي مقدمتها الفساد السياسي، وعدم تقدير الكفاءات العلمية، ومحدودية العائد المالي لأصحاب التخصصات، وهزالة الإنفاق على البحث العلمي، وسياسة وضع العلماء في وظائف لا تتلاءم مع تخصصاتهم، فإن هذا النزيف سوف يتواصل. وما لم يتم وضع استراتيجية عربية واضحة ومحددة لمعالجة هذا الاستنزاف لأهم ثروات الأمة، فإن الأدمغة العربية العلمية سوف تجد نفسها مكرهة للهجرة بحثاً عن بيئة أرقى وأكثر حرية واستقراراً، وأجدى مالياً وأكاديمياً، دون أن تتكلف عناء النظر للخلف حيث تقبع الخطط التنموية المتعثرة، ويقف التاريخ هرماً عند أمجاد لا يمكن استعادتها !!
د . علوي عمر بن فريد