رولا القط تكتب لـ(اليوم الثامن):
عندما تتحوّل الكلمة إلى تهمة
لم يكن انخراطي في مهنة الصحافة خيارًا واعيًا بقدر ما كان استجابة لنداء داخلي، صرخة في وجه الصمت. لم أبحث عن منبر، بل وجدت نفسي مدفوعة للتعبير عن واقع يزداد انغلاقًا، وعن مظلوميات تتكدس في الزوايا المعتمة من الحياة العامة، دون أن تجد من يلتفت إليها.
منذ خطواتي الأولى في هذا الحقل الوعر، أدركت أن الصحافة الحقيقية لا تُمارس في الظل، وأن الكلمة الصادقة لا تمر دون ثمن. كانت الكتابة عندي فعلًا حتميًا، لا ترفًا، ولا حتى خيارًا قابلاً للتراجع. كنت أكتب لأن هناك من لا يستطيع الكتابة، لأن هناك من لا يُسمع صوته، ولأن الحقيقة — بكل بساطتها — لا تملك سلاحًا سوى أن تُقال.
اخترت أن أكون على تماس مباشر مع القضايا التي يتجنبها كثيرون: قضايا الفساد المستشري، وانتهاكات الحقوق، والقمع الممنهج، والتمييز ضد النساء، والحقائق التي يُراد لها أن تبقى طي النسيان. لم أمارس الصحافة بعيون مغمضة، ولا بقلم يرتجف أمام "الخطوط الحمراء". كنت أعلم أن الاقتراب من الحقيقة في منطقتنا ليس مجرد موقف مهني، بل هو مجازفة وجودية.
كل مقال كنت أنشره كان قرارًا محفوفًا بالمخاطر. لم تكن بيئة العمل حرة، بل مشبعة بالخوف والرقابة والتوجس. كنت أكتب وأنا أعلم أن هناك من يراقب، من ينتظر زلّة أو جملة تُقرأ خارج السياق لتُستخدم سلاحًا ضدي. كثيرًا ما قيل لي صراحة: "توقفي… أو تحمّلي العواقب". وكنت، في كل مرة، أختار الاستمرار، لا بدافع البطولة، بل لأن الصمت كان يعني الخيانة — خيانة الحقيقة، وخيانة الضحايا، وخيانة نفسي.
ما لا يُقال كثيرًا هو أن ثمن الكلمة الحرة لا يُدفع فقط من قبل الصحفي، بل يتسرب إلى من حوله. التهديد لا يطرق بابك وحدك، بل باب عائلتك أيضًا. تصبح حياتك سلسلة من الحذر والترقب، وتتعلم أن تتنفس بنصف رئة، كي لا تثير "الاشتباه". ومع ذلك، كنت أؤمن أن لا خيار آخر أمام من يرفض التطبيع مع الظلم.
الكتابة، بالنسبة لي، لم تكن وسيلة للانتشار، بل وسيلة للبقاء — للبقاء على صلة بما أؤمن به، وبمن أكتب من أجلهم. كانت مقاومة صامتة في وجه آلة صاخبة، سلاحًا من ورق لكنه لا يقل خطورة عن أي سلاح تقليدي في عين من يخشون الحقيقة.
واليوم، أكتب لا فقط كصحفية، بل كشخص مستهدف. لا لأنني ارتكبت جرمًا، بل لأنني اخترت قول الحقيقة في مكان يُعامل الصدق كجريمة، ويصنّف الرأي كتهديد أمني. أكتب من منفى قد يكون خارج الحدود، وقد يكون أعمق — منفى داخليّ يجعل كل مساحة مألوفة غريبة، وكل شعور بالأمان مهددًا.
المنفى لا يعني الغياب، بل إعادة التموضع. لا يعني الهروب، بل البحث عن مساحة آمنة تتيح لك الاستمرار دون أن تفقد صوتك. في منفى كهذا، تتغير أشياء كثيرة: نظرتك للعالم، لعلاقاتك، لذاتك. لكن ما لا يتغير، هو إيمانك بأن الكتابة ما تزال تُجدي، وأن الكلمة قادرة — ولو بعد حين — على كسر الحصار.
وأنا أعود اليوم إلى الساحة، لا كما كنت، بل كما أصبحت: أكثر وعيًا، أكثر صلابة، وربما أكثر وحدة. التجربة غيّرتني، نعم. لكنها لم تنزع عني قناعتي بأن الكلمة الحرة، حتى وإن أُدرجت كـ"تهمة"، تبقى فعلًا من أفعال المقاومة، وتبقى أداة من أدوات النجاة.
ولهذا... أكتب الآن — من عقر داركم.