فاروق يوسف يكتب:
انتخاباتنا وانتخاباتهم. ديمقراطيتنا وديمقراطيتهم
قبل لبنان كان العراق قد خاض غمار التجربة التي هي أشبه بالمخاض الناقص. جرب الشعب أن يكون ديمقراطيا بطريقته ليس من أجل أن يقلب الأوضاع السياسية رأسا على عقب، بل من أجل أن يؤكد أنه قادر على احداث تغيير في المعادلات التي يستمد النظام منها قوته. وهي معادلات هشة يمكن اللعب بعناصرها بطريقة ديمقراطية سبق للأحزاب أن تسترت بها واعتبرتها غطاء لاستمرارها في الحكم.
كان حزب الله واضحا في تهديده لمَن يسعى إلى اللعب بموازين القوى التي يجب أن تستقر عند النقطة التي انتهت إليها. كان حديث زعيم الحزب عن المئة الف مقاتلا دقيقا. من غير السلطة ستكون الحرب الأهلية هي البديل. أما في العراق فإن الأحزاب الولائية تملك ذلك العدد من المقاتلين المنتسبين إلى الحشد الشعبي الذين في إمكانهم أن يعيدوا العراق إلى زمن الفوضى إن لم يتمكنوا من العودة إلى زمن فرق الموت، مجهولة الهوية.
في الحالين كان التحدي يمتزج بالسخرية من الشعب ومن ديمقراطيته التي يجب أن تظل واقفة عند حدود الافتراض والتلاسن الفارغ من أي معنى، ذلك لأنه لا يقوم على أي قدرة على صنع آفاق سياسية بديلة. سيبقى الأفق مسدودا ومرتهنا بمفاوضات بين الأحزاب التي احتكرت تمثيل الطوائف في غياب الشعب الضائع بين وطنه المفقود ومواطنته المهدورة.
من وجهة نظر حزب الله في لبنان والأحزاب في العراق فإن الأمور يجب أن تسير في مجراها "الطبيعي" تلقائيا. كل شيء قد حُسم بشكل نهائي في اتجاه ديمقراطية تعيد انتاج النظام، بل وتكرسه مصيرا نهائيا نظرا لأن بديلا لن يكون جاهزا أثناء انتخابات قد تم إعدادها لتكون مجرد مسرحية لإضفاء شرعية صورية أمام المجتمع الدولي، بالرغم من معرفة حملة السلاح بأن المجتمع الدولي هو مجرد عبارة ليس من اليسير تلمس الطريق إلى ما تجسده على مستوى التداول الواقعي والوصف المباشر.
واقعيا فإن أتباع إيران كانوا مطمئنين إلى أن الشعب لن يقوى على أن يستعيد مواطنته المهدورة بعد أن صنعوا واقعا مفخخا بالأزمات التي تبدأ بالخبز لتنتهي بالقتل. لقد حولوا كل تفصيل من تفاصيل الحياة إلى سلاح مضاد يمكن استعماله لإلهاء الشعب وإذلاله وإسكاته واستضعافه وإفساده واللعب بوجدانه العام وإن فشلت كل تلك المحاولات فإن السلاح جاهز لكي يقف في وجه كل محاولة لاستعراض الحقيقة بطريقة سلمية هي التعبير الممكن الوحيد عما تبقى من الإرادة.
ليس من الاستهانة بالشعب القول إن الجزء الأكبر من إرادته قد تم تمييعها أو سرقتها أو الاستيلاء عليها بطرق مختلفة. كان لبنان قد سبق العراق بطائفيته. جريمة فرنسية تم تمريرها بين ملفات تاريخية مضطربة. غير أن الطائفية الفلكلورية وإن أدت إلى حروب محلية لم تكن بابا للخيانة وتخلي اللبناني عن وطنيته والمغامرة بالحرية الشخصية التي هي أعز ما يملك الإنسان. أما العراقيون الذين لم يعرفوا الطائفية يوما ما ولم يعمهم غبار الحروب الأهلية فقد تم وضعهم في ماكنة الطائفية التي أفرزت عمليات عزل وتهجير وتهميش وتجييش وعودة إلى مرويات تاريخية، الكثير منها زائف أما قليلها فلا يمت إلى العصر بصلة. كان مهما أن تنقطع صلة العراقي واللبناني بالعصر. لقد أسدل عملاء إيران الستار على حاضر البلدين وحملا شعبيهما إلى ماض، ليس من المكن النجاة أحقاده.
كل ذلك كان خلفية لديمقراطية مرسومة حدودها بالرصاص وهو ما نقضه الشعبان حين رسم تلك الحدود بأقلام الرصاص. كانت الانتخابات فعلا ميؤوسا منه. وهو ما عملت الأحزاب (الإيرانية) على تكريسه في الوعي الشعبي. أما أن تقترع لصالح عملاء إيران أو تبقى في بيتك من غير أن تفكر بقيمة صوتك المسروق. كان هناك نهب علني للأصوات في حفلة لم يكن أحد يؤمن بضرورة أن تقوم لولا أن هناك شرعية يمكن أن تمنع الآخرين الغرباء من الاعتراض الذي لا قيمة له.
أما أن يذهب العراقيون واللبنانيون إلى صناديق الاقتراع ليؤكدوا لأول مرة إرادتهم العصية على الاحتواء فإنهم يعبرون بذلك عن وجودهم الذي لم يكن في الحسابات. لم يُهزم حزب الله في لبنان بل هُزمت رغبته في احتواء لبنان. لقد صدمت الانتخابات حزب الله بحقيقة أن لبنان لا يزال حيا. لبنان الآخر الذي لم يسقط في فخ تفاهة الحماية الإيرانية والانقطاع عن التاريخ العربي. وهو ما فعله العراقيون بالضبط حين لم يلتفتوا إلى حكاية يزيد والحسين ومارسوا ديمقراطيتهم.
ليس مهما اليوم ما سيفعله حزب الله في لبنان والأحزاب الشيعية المهزومة في العراق، بل المهم أن الشعب في البلدين قال كلمته بحرية وكما يحب.