محمد سيف الدولة يكتب:

خريطة طريق ضد الفقر والاستعباد الاقتصادي

نعانى منذ عقود طويلة فى مصر وغالبية الشعوب العربية وشعوب افريقيا والعالم الثالث، من حزمة من المشكلات وتلال من الأزمات الاقتصادية المزمنة التى لا تختلف من بلد الى آخر الا فى الدرجة؛ من تخلف وانتشار للفقر واستئثار بالثروات وتدهور حاد فى الاحوال المعيشية من صحة وتعليم وتغذية وأمن اجتماعى وضعف للدخول وهبوط للقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة وتفاقم البطالة والإقصاء والتهميش والظلم الاجتماعى والقهر السياسى والعصف بحقوق الإنسان واحتياجاته الاساسية وزيادة اعداد النازحين واللاجئين عبر طرق وقنوات خطرة وغير شرعية او آمنة.. الخ، مع فقدان الأمل فى أى تحسن أو اصلاح أو مستقبل أفضل للاجيال القادمة،..الخ  

***

والاسباب وراء ذلك واحدة ومعروفة من بدايات عصر الاستعمار الغربى ثم الهيمنة الراسمالية العالمية ونهب الثروات وضرب الصناعات الوطنية والسيطرة على الاسواق والعملات واخضاع انظمة الحكم وتوجيه سياساتها وقراراتها الاقتصادية، والاستغلال الاقتصادى والطبقى الخارجى والداخلى، والاستعباد المالى وفرض برامج "اصلاح" اقتصادى مدمرة من مؤسسات الاقراض الدولى مع استخدام سلاح الضغوط والعقوبات والاغراق فى شبكة عنكبوتية من الديون وفوائها المتراكمة والمتشعبة ..الخ

***

وفى المقابل لم تكف الشعوب المقهورة والمنهوبة والمستنزفة فى بلادنا ممثلة فى قواها الوطنية والتقدمية عن النضال والبحث عن طرق للتحرر والنجاة من قبضة هذا النظام الراسمالى المتوحش وأتباعه فى الداخل.

وفى هذه السطور سنتناول احدى هذه الاجتهادات الهامة والمبكرة التى توافقت عليه نخبة من منظمات المجتمع المدنى الافريقية، واصدرت إعلاناً تطرح فيه رؤيتها وتحليلها لطبيعة التحديات المشتركة التى تواجه شعوبنا، كما قدمت اقتراحات عملية محددة لكيفية التصدى لها، وذلك فى مؤتمر بعنوان ((الإلغاء الكامل غير المشروط لديون أفريقيا والعالم الثالث ـ المقاومة والبدائل)) الذى انعقد فى العاصمة السنغالية "داكار" عام 2000، وفيما يلى نص البيان الختامى بقدر من التصرف والمعالجة:

***

نحن المشاركون في اجتماع داكار 2000 لإلغاء ديون العالم الثالث نمثل مجتمعات إفريقيا المدنية، وبدعم من المجتمعات المدنية في أمريكا اللاتينية و آسيا و أوروبا وأمريكا الشمالية، وانطلاقا من تحليل موضوع الدين وخطط التكييف الهيكلي و التنمية، ندرك ما يلى:

1) ان ديون العالم الثالث إحتيالية وبغيضة وغير أخلاقية وغير شرعية وشائنة وبمثابة إبادة جماعية.

2) بلاد الشمال مدينة لبلدان العالم الثالث خاصة أفريقيا بديون متعددة ومتشعبة؛ دين دماء، ودين العبودية، ودين إقتصادي بالإستعمار و نهب الثروات الإنسانية و المعدنية و التبادل غير العادل، والدين البيئي عن طريق تدمير ونهب الثروات الطبيعية، و دين اجتماعي (البطالة، انتشار الفقر) ودين حضاري (إذلال الحضارة الإفريقية لتبرير الإستعمار).

3) ان هيكل الدين وحسابه يفوق سيطرة المدينين. وفي الواقع فانه منذ 1988 زاد الدين في "افريقيا جنوب الصحراء الكبرى" بنسبة 65 % متأخرات وسداد الدين وفوائد مركبة. هذا كيف يثقل عبء الدين الشعوب بإطراد.

4) ان الدين وخطط التكييف الهيكلية تشكل الأسباب الرئيسية لتدهور الصحة والتعليم والتغذية والأمن الغذائي والبيئة والقيم الإجتماعية والثقافية لسكان أفريقيا والعالم الثالث.

5) والدين وخطط التكييف الهيكلية هي السبب في تفاقم البطالة ودمار العائلات الذي يؤدي إلى زيادة الإهمال والدعارة وتدهور الأوضاع الإجتماعية للمرأة والحياة اليومية والتدهور البيئي للقارة والحروب مع أفواج اللاجئين والنازحين.

6) كما ان هبوط الدخول والقدرة الشرائية للعمال والمنتجين الأفارقة يؤدي بالضرورة إلى تداعيات سلبية.

7) بالإضافة الى استنزاف العقول وهجرة الأدمغة يمكن أن نضيف ايضا هجرات أخرى من العالم الثالث الى الشمال، من قوى أشبه بألمافيا وأساليبها من غسيل وتدوير للأموال القذرة: مخدرات، تجارة أعضاء، دعارة وهكذا.

8) ان الديون والتكييف الهيكلي يضعفان دول العالم الثالث بتعريضها لتجارة غير متكافئة وللتقلبات المدمرة للأسواق المالية الحرة. ان منظمة التجارة العالمية والإتفاقات التجارية المفروضة من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تهدف الى المزيد من إضعاف دول العالم الثالث.

9) يرفض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات مجموعة الدول السبع إلغاء الدين لان الدين يوفر لهم آلية لفرض سياسات متسقة مع مصالحهم وسيطرتهم على العالم الثالث.

10) ان الدين هو آلية الليبرالية الجديدة التي تهدف إلى تعزيز مصالح الشراكات عابرة الحدود، ولهذا السبب يوجد تواطؤ بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

11) ان إفريقيا ليست محصنة ضد الاضطرابات الإقتصادية التي تثيرها المضاربات المالية الدولية.

12) ان نضالنا يماثل تلك النضالات في سياتل وواشنطن و براغ ونيس، لذلك نعي ضرورة التضامن بين القوى الاجتماعية التقدمية فى العالم الثالث والشمال: منظمات المجتمع المدني، اتحادات العمال، اتحادات المزارعين، منظمات المرأة و الشباب، المنظمات الدينية، العاملين بالثقافة و الممثلين و أساتذة الاتصالات، نحن المشاركون في داكار 2000 اذ نعلن أن الحق في التطوير واستئصال الفقر هو حق أساسي للشعوب. رفض وادانة تكوين وتراكم ديون العالم الثالث عن طريق الدول الشمالية بالتواطؤ مع الحكام السابقين، فاننا نطلب الاتى :

أولا ـ نطالب الدائنين الشماليين (المؤسسات المالية و الدول)

  • الإلغاء الفوري الكامل وغير المشروط لديون العالم الثالث.
  • إنهاء الإستغلال المالي والإقتصادي لأفريقيا والعالم الثالث عن طريق إلغاء مؤسسات بريتون وودز (المكان الذي انعقد به مؤتمر نتج عنه إنشاء صندوق النقد الدولي) والتي على العكس من مهمتها نجحت فقط في نشر الفقر وتزايد عدم المساواة .
  •  تعويض المبالغ التي استقبلت على نحو غير ملائم.
  • تعويض شعوب أفريقيا والعالم الثالث عن الخسائر الإنسانية والأخلاقية والجسدية والمادية والبيئية التي عانوا منها نتيجة أعباء الديون والتكيف الهيكلي وسلب ثرواتهم.
  • إضفاء الطابع الديمقراطي على منظمة التجارة العالمية.
  • بناء مؤسسات لفرض ضرائب على تحركات رؤوس الأموال لمساعدة المواطنين. (ضريبة توبين)

***

ثانيا ـ ونطالب رؤساء الدول الأفريقية والعالم الثالث:

  • الرفض الصريح للدين بدون إنذار أو تأخير.
  • تكوين جبهة رفض لمقاومة ومحاربة الضغوط والعقوبات التي قد تنتج عن هذه السياسة ورفض أشكال التكيف الهيكلي.
  • استبدالها بسياسات عادلة أصيلة مستدامة تحترم حقوق الإنسان، حقوق العمال وتؤسس على مشاركة شعبية. هذا يعني تعزيز خطة لاجوس، إطار العمل الأفريقي البديل لسياسات التكيف الهيكلي، "معاهدة أبوجا وميثاق أروشا" كبدائل.
  • التصرف كمدافعين حقيقيين عن مصالح شعوبهم والإهتمام بمستقبل الأجيال الحالية والمستقبلية خاصة النساء والأطفال.
  • إنشاء حوارات مخلصة مع مجتمعاتهم المدنية.
  • وضع نهاية للحروب العرقية والأهلية الزائفة والصراعات المصاحبة للديون على حساب الإنفاق الإجتماعي والإستثمارات المثمرة.
  • تعزيز النمو الداخلي للموارد المالية عن طريق الإدخارات الداخلية لتمويل التطور قبل اللجوء للمساعدة الخارجية.
  • بذل تماسك أكبر في المفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية والإقليمية مثل الإتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية.       

***

ثالثا ـ ونطالب قوى العالم الثالث الإجتماعية: 

  • مقاومة الضغوط والضائقة المفروضة عليهم من الشركات عبر الوطنية والمتواطئة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
  • محاربة الضغوط والوقوف في طليعة مواجهة الهجوم على النضالات الإجتماعية التي ستخرج استراتيجيات بديلة .
  • فرض تنفيذ حلول ملموسة قابلة للتطبيق على الحكومات لحل مشكلة الديون والأثر السلبي لبرامج التكيف الهيكلي .
  • فرض مشاركتهم في صياغة وتنفيذ وتقييم السياسات والبرامج البديلة لبرامج التكيف الهيكلي .
  • الطلب من الحكومات التأسيس لحوار مجتمعي والحق في السيطرة كوسيلة حاكمة .
  • تشكيل لجان وطنية مستقلة تشرف على الثروات المكتسبة بطرق مشبوهة والتآزر فيما بينها .
  • التنظيم في تحالفات وطنية وعموم أفريقية ودولية مع شعوب العالم الثالث وقوى الشمال التقدمية .
  • بناء توافق شعبي إفريقي لمواجهة الديون والسياسات المالية التي تشكل الإطار النيوليبرالي المفروض من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة الدول السبع ومنظمة التجارة العالمية.
  • بناء هذا التوافق يتم من أسفل إلى أعلى بناء على هموم الشعب .
  • توعية الشعب بأسباب فقرهم ودعم حركات المقاومة الشعبية .
  • دعم إنشاء حركات المقاومة الشعبية ضمن إطار التنمية الذاتية تكون مناسبة لبلداننا ولقارتنا .
  • تنظيمهم داخل شبكة إقليمية قوية لتعزيز الإجماع الشعبي الإفريقي .
  • تنسيق هذه الأنشطة على المستوى القاري لضمان تماسك أقوى .
  • تنسيق تقدم الإجماع الشعبي الإفريقي مع نضال الحركات التقدمية في جميع أنحاء العالم .

***

رابعا ـ  ونطالب المثقفين والباحثين والأكاديميين الأفارقة: 

  • الإلتزام بمواصلة البحث عن حلول بديلة تقوم على قيمنا الإجتماعية والثقافية ومن مواردنا الذاتية .
  • يجب أن تكون أعمالهم أكثر وضوحا لتصل إلى الفاعليين الإجتماعيين. يجب أن يتيح الخبراء الأفارقة ـ الذين عملوا في مؤسسات دولية ـ خبرتهم وعلاقاتهم للمجتمع المدني الأفريقي ليتمكن من تعزيز قدراته.
  • صياغة نموذجنا الخاص المبني على أساس مصالحنا وقيمنا الأفريقية الإيجابية وإجبار دولنا على تنفيذه.

***

خامسا ـ ونطالب النقابات العمالية الإفريقية:

  • التوحد داخل تحالف قاري ودولي مع عمال من آسيا ، أمريكا اللاتينية والدول الشمالية من أجل الإلغاء الكامل غير المشروط لديون أفريقيا والعالم الثالث .

***

سادسا ـ ونطالب المنظمات النسائية ،الشباب الأفريقي ، الفنانين والرياضيين:

  • التنظيم داخل تحالفات وطنية وأفريقية والإنضمام للقوى الفاعلة لإنجاح النضال ، والبحث عن وتطبيق بدائل التكيف الهيكلي وتوافق واشنطن .

***

سابعا ـ ونطالب منظمات المجتمع المدني الداعمة للتطور:

  • المساهمة في محو الأمية الإقتصادية للقاعدة الشعبية وتعزيز و نشر مفهوم الأدوات التربوية الملائمة .
  • المساهمة في التعليم من أجل العدالة والتعليم من أجل التنمية وفقا لتوصيات مؤتمر داكار للتعليم للجميع.

***

ثامنا ـ ونطالب القوى التقدمية لدول الشمال:

  • تصعيد الضغط على المؤسسات المالية ودولها .
  • تكثيف الحركات الشعبية داخل البلدان من أجل إلغاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وتدخلاتهم في الشئون الداخلية لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية .
  • تعزيز تضامنهم مع القوى التقدمية وشعوب أفريقيا والعالم الثالث .

*****

كان هذا نص "اعلان داكار" الصادر منذ 22 عاما، لدعوة شعوب افريقيا والعالم الثالث الى التضامن معا فى مواجهة الاستعباد المالى والاقتصادى الراسمالى. ومنذ ذلك الوقت زادت أحوالنا سوءا وتضاعفت ديوننا أضعافا مضاعفة، وخضعت دولنا وأنظمتنا الحاكمة أكثر وأكثر لشروط وتعليمات الدائنين ومؤسسات الاقراض الدولى، وأفقدتنا كثيرا مما كنا قد حققناه بعد الحرب العالمية الثانية من استقلال فى معارك وثورات التحرر الوطنى، لتعود الغالبية العظمى من اقطارنا العربية مرة اخرى الى حظيرة الاستعمار الغربى من بوابة التبعية الاقتصادية.

ولقد شهدت السنوات القليلة الماضية مديونيات هائلة تهدد بحدوث كوارث وانهيارات اقتصادية كبرى فى بلاد مثل لبنان والسودان ومصر وتونس وغيرها، فى ظل ضعف أو غياب لاى قوى تقدمية حقيقية وفاعلة قادرة على التصدى للسياسات والانحيازات الاقتصادية والاجتماعية الحالية لانظمة الحكم التابعة، وطرح بدائل اقتصادية وطنية وعملية، وتنظيم حركات معارضة قوية ضد ما تتعرض له شعوبنا من استنزاف وقهر اقتصادى فوق الاحتمال.

لقد خاضت المعارضة المصرية "على سبيل المثال" معارك قوية فى السبعينات ضد سياسات ما سمى "بالانفتاح الاقتصادى"، الذى كان بداية تفكيك الاقتصاد الوطنى. وهى المعارضة التى بلغت ذروتها فى الفترة من 1977 حتى 1981، قبل ان يتم ضربها واضعافها أو احتوائها واختراقها، وتغيير برامجها واجنداتها بالتدريج، الى أن كاد البعد الاقتصادى والاجتماعى يختفى تماما من خطاباتها.

فهل آن الأوان لاحياءها مرة أخرى، بعد أن وصلت الأمور الى حافة الانهيار؟