ذلك الإلغاء وتسريح الآلاف من العاملين الذين كانوا يعملون تحت مظلة هذه الوزارات بحجة أنهم كانوا أبواقاً للنظام السابق في تبرير لا يقل تفاهة عما أوجده.
وفي حادثة يتذكرها أغلب العاملين في وزارة الإعلام أن مجلس الحُكم الذي أسسه بول بريمر لحكم العراق كان يتناوب أعضاؤه كل شهر للحكم وحسب الحروف الأبجدية، تصوروا المفارقة والسخرية من المشهد السياسي، أقر هذا المجلس قانوناً يقضي بتسريح العاملين في وزارة الإعلام، وإلغاء كافة حقوقهم ومستحقاتهم الوظيفية، هذا القرار الذي أدى إلى قطع أرزاق الموظفين، وعوائلهم وتشريدهم، فكانت التظاهرات والتجمعات شبه اليومية تنطلق من أمام بناية الوزارة في شارع حيفا، إلى بوابات المنطقة الخضراء التي يقطن فيها هؤلاء الحُكام الجُدد لغرض إيصال أصواتهم.
أخيراً وبعد سلسلة من المحاولات للمطالبة بحقوقهم المسلوبة خرج إليهم الناطق بإسم مجلس الحُكم حينها حميد الكفائي ليُعلنها لهم بالحرف الواحد: "رواتب ماكو...وين متريدون روحوا" فكانت هذه الكلمات هي إطلاقة الرحمة التي أنهت أحلام منتسبي الوزارة بالحصول على رواتبهم وحقوقهم التي منعها قادة مجلس الحُكم.
لم يبق أمام هؤلاء سوى اتخاذهم قراراً يقضي بتدويل قضية منتسبي وزارة الإعلام وإيصال أصواتهم إلى خارج العراق خصوصاً لما كانت تتمتع به وزارة الإعلام وموظفيها من علاقات جيدة واحترام مهني مع بعض المنظمات الدولية وحقوق الإنسان، لذلك بادر بعض الزملاء في وكالة الأنباء العراقية التابعة للوزارة، وما كانت تملكه من مكاتب إعلامية في أغلب الدول لإيصال أصوات المطالبين بحقوقهم إلى كل من يهمهم الأمر، وحين وصلت هذه المناشدات والمطالبات إلى الشيخ الراحل زايد بن خليفة، رحمه الله، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة أعلن مبادرة لاستقبال هؤلاء الموظفين وعوائلهم في دولة الإمارات، مع توفير فرص عمل وإقامة للجميع، لأنه كان يُدرك بفطرته وخبرته السياسية حجم الخبرة والمهنية التي يملكها هؤلاء الإعلاميين والصحافيين، ولأنه كان يعلم أنهم خبرات وكفاءات لايمكن التفريط بهم، لذلك قرر ضمهم إلى المؤسسات الإعلامية الإماراتية.
تسرب هذا الخبر إلى مايسمى أكذوبة حُكّام العراق، الذي أعلن رفضه لهذه المبادرة على اعتبار أنها قد تكون قضية رأي عام تخدش ديمقراطيتهم الزائفة، وخوفاً على صورتهم الجديدة من أن تتشوه في أنظار الآخرين، فاضطروا إلى الموافقة على صرف مُنحة بائسة للعاملين في هذه الوزارة على أمل أن يجدوا حلاً لمشكلة موظفيها.
وأنا أُشاهد كغيري من العراقيين صور ولحظات استقبال الإعلامي جورج قرداحي وباقات الورد التي حُظي بها عندما وطأت أقدامه أرض مطار بغداد كأحد الزعماء أو القادة المنتصرين وهو ذلك الإعلامي الذي لم تتجاوز إنجازاته برنامج "من سيربح المليون" أو برنامج "المسامح كريم" وأخطاء سياسية، وزلة كلام، كادت أن تُسبب أزمة سياسية بين بلدين عربيين، تذكرت تلك الخبرات والكفاءات العراقية خارج الوطن وهي تتربع اليوم على عروش مؤسسات صحافية مرموقة وتقود مراكز إعلامية يُشار لها بالمهنية والنجاح دون أن يُثير ذلك حفيظة الحاكم الجديد للعراق، ويستنهض فيه الغيرة الوطنية لاستقطابهم وإرجاعهم إلى بلدهم، أدركت أخيراً أن حجم الأسف ومقدار الكارثة التي حلّت بهذا البلد لا يكفي لوصف الدمار والخراب الذي استوطن به، لم يعد بمقدوري أن أستوعب ما وصل إليه بلدي العراق في ضحالة من يحكمه، فيما كان هذا البلد يُعتبر منارة في كل محفل وعلم وثقافة، رحم الله العراق وأعان شعباً ابتلي بمن يحكمه من النكرات.