محمد أبوالفضل يكتب:
فقه الأولويات عند عموم المصريين
عقّب رئيس تحرير “العرب” الدكتور هيثم الزبيدي على المقال السابق (فقه الأولويات في مصر) المنشور الاثنين الماضي بأنه يركز كثيرا على ترتيب الأولويات عند النظام الحاكم، فماذا عن عموم المصريين؟
وعدته بالعودة إلى الموضوع ثانية للتركيز على هذه الزاوية، وخلال مرحلة الاطلاع والتجهيز للمقال لفتت نظري مجموعة من الملاحظات التي تستحق الوقوف عندها.
تتفق قائمة الأولويات عند شريحة كبيرة مع المصريين مع التراتبية التي وضعها النظام، ويأتي الخلاف في تفاصيل التعامل مع كل قضية، فيما عدا الضريبة المباشرة للمشروعات القومية الكبرى، والتي يحتاجونها من دون دفع ثمن عنها، باهظ أو ضئيل، فالبنية التحتية المتهالكة بحاجة إلى إنقاذ سريع، والطرق والكباري والقطارات فائقة السرعة والمدن الجديدة مهمة، شريطة تجهيزها بلا معاناة أو تكاليف.
لا تعد هذه الزاوية دليلا على التكاسل أو عدم التعاون، غير أن الطبيعة التي تربى عليها المصريون والعلاقة التي ربطتهم بالأنظمة السابقة تنطوي على قدر كبير من الاتكال على حكومات عودتهم على تلبية مطالبهم بلا ضريبة مادية كبيرة، الأمر الذي تتبنى عكسه الحكومة الحالية، لأن عملية الإصلاح الاقتصادي مرهقة ومكلفة.
فهم النظام المصري الشعب جيدا وبدا قريبا من أوجاعه الأساسية ومتسقا مع أولوياته الحياتية، فيما عدا تحمله ضريبة مادية، وعزف على الأوتار التي تجعله راضيا عنه، وفي مقدمتها تحقيق الأمن والاستقرار، وهي هدف تحقق الفترة الماضية بعد التخلص من كابوس الإرهاب وفوبيا الجماعات المتطرفة التي أقضّت مضاجع فئة كبيرة من الناس بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لا تقتصر الحياة عند المصريين على توافر الأمن والاستقرار والمأكل والمشرب والملبس، حيث هناك أولويات لا تقل عن هذه الخصال أو يريدون أن تسير بالتوازي
عاش المواطنون فترة صعبة بسبب تصاعد حدة العنف في البلاد بعد ثورة يناير 2011، وزادت المخاوف عقب ثورة يونيو 2013 التي أطلقت بركانا من العمليات الإرهابية أشعرت المصريين بحاجتهم القصوى لأولوية الأمن على غيره.
زادت القيمة التي يمثلها فقدانه داخل عقولهم وهم يرون بعض الدول العربية تتهاوى من حولهم ويتم تشريد شعوبها ويستقبلون مئات الآلاف منهم في القاهرة ويستمعون إلى قصص مأساوية وحكايات تقشعر لها الأبدان أكدت في مضمونها أهمية الأمن الذي تحقق في بلدهم، ووضعته أجهزة الدولة على رأس الأولويات.
لا يطيق عموم المصريين الحياة في ظروف اقتصادية صعبة، وكان البعض منهم يتغلب على تداعياتها بمساعدات رسمية محدودة أو هجرة إلى دول الخليج والعراق وليبيا، وعندما تراجعت المساعدات الحكومية وباتت فوق طاقة الحكومة وتوقفت معظم الدول عن استقدام العمالة لأسباب متعلقة بالتوطين مثل دول الخليج أو الصراعات الداخلية التي دمرت العراق وليبيا، عاد الملايين من المصريين، وطفت على السطح أزمة اقتصادية قابلة لتتفاقم معالمها مع توالي معالمها لأسباب أخرى.
أقدم النظام المصري منذ ستة أعوام على عملية إصلاح اقتصادي هيكلية تجاوب معها المصريون على مضض أملا في تحسن أحوالهم، غير أن المردودات حتى الآن لا تتناسب مع التطلعات، وهو ما تحاول الحكومة تخفيف حدته عبر مشروعات موجهة إلى محدودي الدخل والفقراء وبرامج حماية متعددة لتحاشي انفجار سبيكة اجتماعية تزداد هشاشة مع تصاعد المخاطر الناجمة عن الأزمات الاقتصادية.
انتبه النظام الحاكم إلى أولويات الشريحة الفقيرة من المصريين وعمل على تخفيف الأعباء الواقعة عليها، لكن في خضم هذا التوجه دهس قطار الإصلاحات جزءا من الشريحة المتوسطة التي انخفض مستوى نسبة كبيرة فيها وتحاول تحمل الأعباء.
يعتقد المنتمون إلى الطبقة المتوسطة أنهم سقطوا سهوا من أولويات الحكومة، بينما ترى نخبتهم أن نحرا مقصودا أصابهم، فمن بين هذه الطبقة يخرج الراغبون في التغيير، وقطع الإنهاك الحاصل في قوتهم المعنوية والمادية الطريق عليهم، ولن يسمح لهم بالوقت الكافي للتفكير في فضيلة التغيير والعمل على تطبيقها إذا تصوروا أن الأوضاع العامة لا تسير في الفضاء الصحيح.
لا تقتصر الحياة عند المصريين على توافر الأمن والاستقرار والمأكل والمشرب والملبس، حيث هناك أولويات لا تقل عن هذه الخصال أو يريدون أن تسير بالتوازي، وأبرزها التعليم الجيد والعلاج المتاح والعدالة والكرامة الإنسانية والحرية.
مسألة الحرية الإعلامية والحركة في الفضاء العام تحتل مرتبة متدنية عند عموم المصريين، مقارنة بالقضايا السابقة
أظهر النظام المصري قدرا لافتا من الاهتمام بكل هذه الملفات، لكن طريقة التعامل معها أقل من الطموحات، فعلى الرغم من خطط تطوير التعليم والتبشير بإدخال أحدث الأنظمة في العملية التعليمية، إلا أن النتيجة بعيدة عن طموحات عموم المصريين.
ومع أن مدخلات التعليم تغيرت كثيرا يظل التآكل فيه مستمرا، وهو ما يزعج الفئة التي تراهن على تغيير حالها وأحوالها من خلال توفير مستوى جيد من تعليم الأبناء.
ويبدو أن هناك مسافة بين ما تقوم به الحكومة من تحركات وما تريده الغالبية من المصريين، وبدلا من أن يصبح التطوير عقدا اجتماعيا ينال رضا المواطنين على الحكومة تحول إلى منغص في العلاقة بين الجانبين.
ينسحب مشهد الخلل في التعليم على الصحة، فقد حاز القطاع الصحي على اهتمام كبير من النظام المصري، غير أن نتيجته لا تزال محدودة، ربما للكثافة السكانية، أو لأن الحكومة تدير المنظومة بطريقة خاطئة وتتسرب من خلالها أوجه الفساد الذي بات من الأولويات الضرورية ويحتاج المواطنون والحكومة القضاء عليه.
يأتي التباين بين الطرفين من فهم كل طرف لمفهوم الفساد، فالمواطنون المتضررون يطالبون بمنح أولوية لاجتثاث الفساد الأعظم الذي ترعرع في كنف البعض من المسؤولين ومن يوصفون بـ”الحيتان الكبار”، والحكومة تعتقد أن البيروقراطية عتيدة ومغرية لانتشار الفساد الأعظم والأصغر، وأن عملية التخلص منهما بضربات قوية قد تؤدي إلى اهتزاز في دولاب الدولة، فالفساد تحول إلى مؤسسة لها رعاة ومدافعون عنها في الخفاء، يُفضّل تأخير المواجهة معهم إلى حين إضعاف مفاصلهم.
يجر التفاوت في الرؤية للفساد معه إشكالية توفير العدالة في جميع المجالات، وهي هم يؤرق عموم المصريين بالليل والنهار، ويرون أن هناك تفرقة واضحة في طريقة التعيين بعدد من الوظائف العامة، صارت محتكرة على البعض، مثل الالتحاق بمؤسسة الجيش وجهاز الشرطة والهيئات القضائية.
ويخضع الاختيار في هذه القطاعات إلى إجراءات صارمة يتشكك هؤلاء في أنها بعيدة عن المهنية وتبعد فئة عريضة منهم عن الالتحاق بها، ما جعلهم يشعرون بعدم احترام العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
تحتل مسألة الحرية الإعلامية والحركة في الفضاء العام مرتبة متدنية عند عموم المصريين، مقارنة بالقضايا السابقة، الأمر الذي جعل النظام المصري صامدا في مقاومة الضغوط الخارجية في ملف الحريات وحقوق الإنسان، ويصك مفهومه الخاص وبما يتواءم مع الحاجات الرئيسية التي يريد الناس الحصول عليها، وتقع الحريات في ذيلها، الأمر الذي شجع النظام على تقديم مفهوم واسع للحوار الوطني وعدم قصره على الشق السياسي كما تريد قوى وأحزاب وشخصيات معارضة.