محمد أبوالفضل يكتب:
عقدة التباعد المصري – التركي في شرق المتوسط
كان من الممكن أن يصبح التفاهم بين مصر وتركيا في شرق البحر المتوسط وسيلة فعالة لمزيد من التقارب السياسي بين البلدين، لو أن كليهما انتبه مبكرا إلى الأهمية الاستراتيجية التي يحملها ما يعرف بـ”خليج الغاز” في هذه المنطقة، واتخذ ما يكفي من الإجراءات لتمتين العلاقة مع الآخر.
يقع اللوم على أنقرة في هذه المسألة، لأنها بدأت العداء السياسي مع النظام المصري، ولم تدرك أن رهاناتها خاسرة، وعندما حاولت تصحيح الأوضاع كانت هناك مستجدات تقلل من إمكانية الوصول إلى ما تطمح لتحقيقه، فكل الخطوات التي قادت إلى الهدوء بين الجانبين لم تغير من الرؤية الكلية لما يجري في شرق المتوسط.
تتحرك تركيا الآن بخطوات حثيثة لتعويض ما فاتها، فسياسة البوارج الحربية التي اتبعتها لم تحقق ما أرادته تماما، وتطوير علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع ليبيا في عهد حكومة الوفاق الوطني أخفقت في قلب توازنات الغاز لصالحها.
فشلت الإشارات الإيجابية التي بعثت بها تركيا من خلال ترسيمها للحدود مع ليبيا في تليين موقف القاهرة التي منحها التقسيم، غير المعترف به دوليا، نحو 35 ألف كيلومتر مربع من المياه، فلم تتجاوب مصر رسميا مع الترسيم وعارضته، وهي تعلم أن أنقرة لا تملك هذه المساحة كي تمنحها لها، كما يعني قبولها أن تحالفها مع اليونان وقبرص القائم أصلا على الشراكة في شرق المتوسط سيكون معرضا للخطر.
تركيا كسرت عقدتها مع إسرائيل في شرق المتوسط مضطرة بعد أن ضاقت أمامها السبل، وتضع عينيها على ما تملكه من قدرات للاستفادة منها في قضية غاز شرق المتوسط
جربت تركيا العديد من الحيل القاسية والليّنة لتخريب الخطط التي هندستها مصر في هذه المنطقة ولم تصل إلى النتيجة التي تتمناها، ولوحت بسفنها الحربية وحشدت آلتها العسكرية من دون أن تحدث تغييرا في المعادلة التي رسمها منتدى شرق المتوسط.
ودخلت بالمعدات العسكرية في الأراضي الليبية وأرسلت جيوشا من المرتزقة ووثقت العلاقات مع حكومة الوفاق ولم تفلح في إحداث تحول نوعي يميل لصالحها، وهددت اليونان وتوعدت قبرص ولم يفك التهديد والوعيد في عضد علاقتهما بالقاهرة.
قدمت الكثير من التنازلات في ملف رعايتها لجماعة الإخوان والتنظيمات المتطرفة، والقاهرة تتحفظ على الانفتاح عليها ولا تتجاوب مع طموحاتها في شرق المتوسط، حيث تعلم أنها في اللحظة التي تمد خيوط التواصل مع أنقرة للتفاهم حول ثروات هذه المنطقة ستخسر حليفين مهمين لها على الساحة الأوروبية، هما اليونان وقبرص.
تؤكد معطيات مختلفة أن التفاهم في شرق المتوسط محفوف بالمخاطر، فالاستدارة التي تقوم بها القيادة التركية حاليا لا علاقة لها بالرغبة في تحسين العلاقات مع مصر، بل هي جزء من إعادة ترتيب الأولويات الخاصة بنظام وجد أن سياسته السابقة لم تحقق أهدافه الإقليمية، وكبدته خسائر فادحة في خليج الغاز الجديد.
تتمتع السياسة التركية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان بقدرة عالية على البراغماتية في شقها الانتهازي والتطلع إلى عقد تحالفات منتجة وعدم الوقوع في أسر تصورات جامدة، وهي السياسة التي وفرت لأنقرة مساحة للتقدم والتراجع.
المصلحة وحدها تحدد أين تضع تركيا قدميها، وعندما تأكدت أن وضع القدمين في شرق المتوسط لن يأتي بدبلوماسية البوارج الحربية سحبتها وبدأت تعمل من خلال دبلوماسية المصالح الاقتصادية، وهي اللغة التي أصبحت سائدة في المنطقة.
تمخضت هذه التوجهات عن عدم غلق جميع الأبواب مع القاهرة، فقد يأتي اليوم لتدخل من أحدها ويتم التوصل إلى تفاهمات مشتركة حول كيفية إدارة الثروة الغازية الواعدة، والتي يمكن أن تحل جزءا كبيرا من مشكلات البلدين، وإلى حين أن تأتي اللحظة للدخول أو لا تأتي أبدا، قررت أنقرة التوجه نحو إسرائيل، وما رفضته القاهرة من تعاون بدت تل أبيب مستعدة لقبوله والاتفاق عليه مع أنقرة.
لا تزال مصر مترددة في الاستفادة من علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل لأسباب سياسية ودعائية.. ما أدى إلى تهيئة الأجواء أمام تركيا لتوثيق علاقاتها مع إسرائيل في مجال الغاز
تؤدي السرعة التي تتحرك بها تركيا حيال قوى عربية عديدة في المنطقة، من بينها إسرائيل، إلى حرق الكثير من المراحل وتعويض الوقت الذي أضاعته في التلويح بالقوة وخلق صورة نمطية عن مشاغبات لا تنتهي، وتمثل تهديدا للأمن والاستقرار في منطقة لا يمكن الاستفادة من ثرواتها في ظل استمرار الصراعات والتوترات.
تعمل أنقرة مع تل أبيب لإيجاد منظومة تجمعهما تتعلق بالغاز وشطبت فيتو تطوير التعامل الاقتصادي معها في لمح البصر، وباتت مصر بعيدة عن ذلك وتسير في منظومتها المعروفة بمنتدى شرق المتوسط الذي اكتسب أرضية قانونية ودولية صلبة.
واستقطبت الكثير من القوى الإقليمية والدولية للمشاركة فيه بصورة مباشرة، أو بصفة مراقب يحل على مزايا متباينة تمكنه من أن يكون قريبا بما يكفي من مناقشات واجتماعات المنتدى، عدا تركيا التي سوف تظل بعيدة عنه ما لم تقم بإعادة صياغة علاقاتها مع كل الدول المؤثرة في المنتدى وليس مصر فقط.
كسرت تركيا عقدتها مع إسرائيل في شرق المتوسط مضطرة بعد أن ضاقت أمامها السبل، وتضع عينيها على ما تملكه من قدرات للاستفادة منها في قضية غاز شرق المتوسط، فهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي قبلت تطوير التعاون معها بشأن غاز المتوسط، حيث تعيش سوريا ظروفا صعبة والعداء بينها وبين أنقرة لا يسمح بتعاون منتج، ولبنان يعجز عن التحكم في مقاليد هذا النوع من القضايا، وكل من مصر واليونان وقبرص في جانب مقابل، وليبيا تمر بأوضاع لا تسمح لتصبح رقما مؤثرا.
وجدت تركيا ملاذها في إسرائيل، وقبلت الأخيرة بالتفاهم معها كي تضاعف نفوذها في منتدى شرق المتوسط العضو فيه، وتظهر لمصر أهمية ورقة كان يمكن أن تجني منها ثمارا عدة لو قررت المزيد من الانفتاح عليها في ملف غاز، فالخطوات التي قطعت حتى الآن حيال تسييل الغاز الإسرائيلي بمصر ربما تحقق أكثر منها لو منحت الفرصة لتطوير التعاون، وهي خطوة تجعل تركيا تجدف وحيدة بشرق المتوسط.
لا تزال مصر مترددة في الاستفادة من علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل لأسباب سياسية ودعائية، حيث تبدو أحيانا قريبة منها في بعض الملفات، غير أن الثوابت التاريخية التي تحكمها تجعلها تتقدم منها في وقت وتبتعد عنها في آخر، ما أدى إلى تهيئة الأجواء أمام تركيا لتوثيق علاقاتها مع إسرائيل في مجال الغاز.
إذا تمكنت القاهرة من إيجاد صيغة مناسبة لتعزيز روابطها في خليج الغاز مع تل أبيب، بجانب كل من أثينا ونيقوسيا بالطبع، سوف تحرز هدفا جديدا في أنقرة وتجبرها على الرضوخ لمطالبها السياسية والأمنية، فإسرائيل التي تملك مروحة واسعة من العلاقات قد تصبح ثغرة تنقذ تركيا من الحصار الإقليمي في شرق المتوسط.