محمد أبوالفضل يكتب:
أوكرانيا تعدّل جزئيا في المعطيات المصرية
فرضت الحرب الروسية في أوكرانيا على الحكومة المصرية تبني تحركات عاجلة واتخاذ إجراءات طارئة والقيام بتعديلات جزئية في بعض المعطيات الاقتصادية للتعامل مع روافدها الممتدة، لكن لم ينجم عنها تغيير عميق في آليات الإنتاج بما يعيد مصر إلى سكة الاكتفاء الذاتي في أساسيات المواد الغذائية.
نجحت الحكومة في الحد من النتائج السلبية على مستوى القمح الذي يعد سلعة في غاية الأهمية بمصر وتستورد نسبة عالية منه، وتأتي غالبية حاجاتها من روسيا وأوكرانيا، ولديها قدرة على تمرير العام الحالي دون نقص فادح بسبب مخزونها من الاحتياطي وقيام الحكومة بإلزام الفلاحين بتسليم المحصول الناجم عن زراعته محليا.
ماذا عن العام المقبل وغيره من الأعوام، وماذا عن طريقة التعامل مع الفجوة الغذائية المتوقعة في العالم، وهل استعدت القاهرة لما هو قادم من نقص محتمل في السلع المستوردة وتوفير الإمكانيات المادية اللازمة للحصول على المنتجات الأساسية؟
مصر تتوسع في الزراعة والصناعة ومشروعات التعمير العملاقة والبنية التحتية وتفتح فرص عمل جديدة للشباب، لكنها لا تتبنى خطة في قطاع محدد تصل من خلالها إلى درجة الاكتفاء الذاتي
تراجعت حدة الأزمة لأن الحكومة انتبهت مبكرا إلى خطورة الاعتماد كثيرا على الاستيراد في ظل تقلبات تسود العالم ولاحت ملامحها منذ سنوات، عجلت بها أزمة أوكرانيا، لأن ثمة مؤشرات ظهرت تتعلق بالتغيرات المناخية وخطورة رهن مصير بعض السلع في يد دولة واحدة، حيث تتحول إلى ورقة ضغط عليها، ما جعل مصر تشرع في تنويع منابع الاستيراد في المواد الغذائية والسلاح وعدد كبير من المنتجات التي يصعب الاستغناء عنها.
عدّلت حرب أوكرانيا في بعض المعطيات المصرية، غير أنها لم تتوافر معلومات حول القيام بتحولات جوهرية في مسألة الأمن الغذائي، فكل ما أعلن عنه توجهات بشأن استصلاح المزيد من الأراضي وزيادة الرقعة الزراعية من القمح وتشجيع الفلاحين على الإقبال عليه بما يصب في نطاق الخطط التكتيكية وليست الاستراتيجية.
تتطلب الأخيرة تعديلا جوهريا في الرؤية العامة، والتخلي عن خطط محددة مقابل التوسع في زراعة الحبوب عموما، والقمح خصوصا، والتفكير خارج الصندوق بالاتفاق مع دول قريبة أو بعيدة بتوظيف المساحات المتوافرة فيها من أراض زراعية، مثل السودان، أو جذب استثمارات من دول أجنبية أو خليجية مهمتها فقط تكثيف الاستثمار في مجال الحبوب، وذلك للمضي قدما في طريق الاكتفاء الذاتي.
مهما تكن تكاليف الخطوة التي تتبناها الحكومة لزراعة الحبوب محليا، فإنها ستكون مصيرية لأنها تزيل أحد المنغصات التي تؤرق شريحة كبيرة من المصريين بدأت تشعر بالخطر الحقيقي مع انسداد منافذ تصدير القمح القادم من روسيا وأوكرانيا.
دق هذا الإغلاق ناقوس الخطر كي تفيق الحكومة المصرية من كابوس التوسع في استيراد عدد كبير من السلع وتتخذ بعض الإجراءات القاسية للحد من المنتجات ذات الرفاهية، فهناك “لوبيات” أو جماعات ضغط توحشت بعد أن احتكرت الهيمنة على سلع معينة يتم استيرادها منذ زمن بلا منافسة حقيقية في السوق المحلية.
القمح يعد سلعة في غاية الأهمية بمصر وتستورد نسبة عالية منه، وتأتي غالبية حاجاتها من روسيا وأوكرانيا
تتعدد الوجوه المصرية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا وما اصطحبته من دلالات، لأن القمح أحد مظاهرها كسلعة رئيسية تهم قطاعا واسعا من الناس، فهو الخبز والعيش ومصدر الحياة منذ زمن بعيد، لكن هناك تشوهات أخرى تسببت فيها فوضى الاستيراد من الخارج على مدار حوالي خمسة عقود، في حاجة إلى وقفة جادة.
في ظل الإغلاقات التي يمكن أن تتعرض لها بعض الأسواق العتيدة والناشئة جراء انتشار الأوبئة والأمراض، وزيادة الصراعات والنزاعات، أصبح من المهم القيام بوقفة جادة لضبط الخلل، خاصة أن الدولة تعاني من عجز فاضح في العملات الأجنبية ولا تسعفها الموارد الحالية في توفير الأموال التي تمكنها من زيادة حصة الاستيراد.
تعديل الحكومة في خططها بما يتواءم مع تطورات الحرب في أوكرانيا يندرج في باب المسكنات التي لا تتناسب مع آليات التعامل مع أزمة محتدمة تتطلب مرونة عالية في تغيير الأولويات، لأن العالم قد يخرج منها مختلفا عمّا كان قبلها، حيث لفتت الانتباه إلى الخطورة التي ينطوي عليها وضع بعض السلع الحيوية في سلة واحدة.
بدأت الدول الغربية تنتبه إلى المأساة الناتجة عن اعتمادها على الغاز الروسي، فدولة مثل ألمانيا وضعت جانبا كبيرا من رهاناتها على موسكو، وأخذت الولايات المتحدة تدخل تغييرا في رؤيتها تجاه الشرق الأوسط بعد أن تأكدت من أن خروجها أو هروبها من جحيمه يمكن أن يفضي إلى جحيم استراتيجي أكبر، فشرعت في العودة إليه.
أعلنت الحكومة المصرية رغبتها في تحاشي تكرار مأزق أوكرانيا وتحدثت عن تصورات تتخذها الفترة المقبلة، غير أنها لم تعلن عن معالم محددة حتى الآن يمكن أن تقوم بها، بخلاف ما جرى التخطيط له تلقائيا قبل الحرب، وهو لا يكفي للتعامل مع التحديات المتفاقمة في مجالات عديدة، لأن التوسع يتم أفقيا وليس رأسيا.
تتوسع مصر في الزراعة والصناعة ومشروعات التعمير العملاقة والبنية التحتية وتفتح فرص عمل جديدة للشباب، لكنها لا تتبنى خطة في قطاع محدد تصل من خلالها إلى درجة الاكتفاء الذاتي أو إلى مستوى يؤهلها للمنافسة الحقيقية، وهو أحد العيوب التي كشفتها أزمة أوكرانيا، فكل الأراضي التي أعلن عن زراعتها بمحصول القمح لا تسد سوى ثلث الكمية المطلوبة في أحسن أحوالها، ويمكن القياس على ذلك في سلع أخرى.
مهما تكن تكاليف الخطوة التي تتبناها الحكومة لزراعة الحبوب محليا، فإنها ستكون مصيرية لأنها تزيل أحد المنغصات التي تؤرق شريحة كبيرة من المصريين
تحول استيراد كل شيء وأيّ شيء إلى نهج يحتاج إلى فلسفة جديدة، ولذلك يتندر مصريون على استيراد أعواد الثقاب، وأدوات بلاستيكية لربط حزم النقود، وكلها منتجات زهيدة الثمن من السهل تصنيعها محليا وتوفير ما تتطلبه من عملات أجنبية.
تحتاج الحكومة إلى وضع خطة واضحة لبوصلتها في مجال الأمن الغذائي وكل المنتجات الحيوية، وتفرض بصرامة عملية تنفيذها وتلزم جميع القطاعات بعدم الخروج عنها كي تتمكن من ضبط الانفلات الحاصل في السوق، والشروع بهندسة جديدة للسلع المستوردة بما يساعدها على تجاوز عقدة انفتاح “السداح مداح” أو الفوضى الشائعة في السوق، والتي يتم العمل بها وفقا لما تفرضه من طقوس غير منظمة منذ بداية عصر الانفتاح في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في منتصف السبعينات من القرن الماضي.
تستخدم عبارة “السداح مداح” في الكثير من التعاملات الاقتصادية، وعلى الرغم من محاولة الحكومة التخلص من هذه الآفة، إلا أن جيوبها تنخر في دواليب الدولة، ولن يتم التخلص منها ما لم يتم النظر بدقة في مسألة رسم الخطط بصورة عميقة، وربما يكون القمح هو البداية لأن عملية الضبط طويلة وفي حاجة إلى صبر وطموح.