علي القحيص يكتب:

هل من "خريطة طريق" عربية؟!

من التحليلات والاستنتاجات المتداولة هذه الأيام، يتبين أن هناك تحولاً وتغيراً جديداً يلوح في الأفق، وأن استراتيجية جديدة يجري ترتيبها ورسمها في القادم القريب، وهي طبخة متقنة يجري إنضاجها على نار هادئة، وذلك بغية رسم خريطة طريق عربية جديدة لإعادة ضبط مسار التوجه العام للعالم العربي، في محاولة لحماية استقرار المنطقة ولتأمين آفاقها المستقبلية، في مواجهة المخاطر والتحديات الكثيرة التي تهددها. ونلاحظ وجود إشارات متفرّقة تومئ إلى أهداف وتفاهمات يُرجى من ورائها ما يخدم مصالح المنطقة وأهلها.

وربما تكون التطورات التكاملية المرتقبة مفاجئة، ولعل الدول العربية تشهد مثلها لأول مرة منذ نشأة الجامعة العربية، لا سيما بعد أن أُصيبت بعض الدول العربية بالإحباط وفقدت الأمل في إمكانية قيام مشروع عربي شامل جامع يؤمِّن مستقبلَها ويحافظ على استقرارها، خاصة بعد اضطرابات «الربيع العربي» التي ذاقت جرّاءَها بعض الدول العربية وشعوبها الأمرّين، فتعرضت للتدمير والتشريد وفقدت مواردَها وخسرت إرادَتَها وسيادتَها.. وتالياً فقدت شعوبُها الإيمانَ بكل المصطلحات والشعارات والقيم الوطنية والقومية السابقة التي كانت تحلم بها وترنو لتطبيقها.

لقد تفاجأت تلك الشعوب بأن الشعارات تحوَّلت إلى مجرد مادة للاستهلاك المحلي، تقال ولا تُطبَّق، تُقرَأُ ولا تُنَفَّذ.. أي مجرد كلمات منمقة لا تُغني ولا تسمن من جوع. واكتشفت تلك المجتمعات العربية أن حلمها الوحدوي التقدمي تبخّر وذهب سدى، وأن نصفها الآن بين مُهجَّر ولاجئ ونازح.

وقد رأيتُ بأم عيني مواطناً من إحدى الدول التي نُكبت بالربيع العربي يفتش عن بقايا طعام في حاوية زبالة بإحدى مدن الدول الغربية. لقد صُعِقْتُ وصُدمْتُ، وحاولتُ أن أُبعده عن حاوية القمامة التي تنبعث منها روائح كريهة لا تطاق، فقلت له: تعال معي إلى ذلك المطعم كي نأكل معاً هناك، لكنه رفض بشدة، وحين استفسرتُ منه قال: هناك داخل المطعم رجل من "أمن الهجرة" يعرفني، ويعلم بأني لا أحمل إقامةً ولا جوازَ سفر ولا أي ورقة إثبات، وربما يعتقلني كي أتعرّض للتسفير إلى بلدي. فقلت: ربما لو سفَّركَ إلى بلدكَ لكان ذلك أفضل لك من هذه الحالة المزرية! فقال: لا، إذا ذهبتُ هناك فالموت يتلقفني لدى وصولي مباشرةً.. بواسطة الميليشيات التي تقتل على الهوية!

هذا نموذج من حالة بعض الشعوب العربية التي يعيش الكثير من أبنائها مشرَّدين ولاجئين بين الأقطار الغربية، ينامون على الأرصفة، ويبحثون في القمامة عن بقايا طعام يسدون به رمَقَهم، وبعضهم يعتاش مما يحصل عليه كأجر عن تنظيف الحاويات والمرافق الصحية! فما هي انتظارات مثل هذه الشعوب العربية التي حلَّت بها مأساة الاضطراب وفقدان الأمن والأمل، فمالَ بها الزمن وحل عليها الضيم والأسى، وأصبحت ضحيةَ للعسف والتطرف والاستغلال السياسي لمأساتها الإنسانية؟

وماذا ينتظر منها؟ وما الذي يمكن أن يُطلَب منها وقد عانت ما عانَته في وطنها من حرب وقتل، ثم وصلت إلى تلك الدرجة من المذَلَّة والمهانة والانكسار في ديار الغربة خارج أوطانها وبعيداً عن أرضها التي ولدت فيها وضحت من أجلها؟! إنها صورةٌ جانبيةٌ من مأساة تتطلب وضع خريطة طريق عربية جديدة، عاجلة وناجعة، بغيةَ إنقاذ الوضع العربي مما وصل إليه من انفراط وتشرذم وضياع.