علي الصراف يكتب:
الأزمة في تونس صنعت الحاجة إلى رئيس.. ما العجيب؟
السجالات حول الدستور التونسي الجديد كثيرة. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن تونس في حاجة إلى رئيس، يقود ويوّجه ويكون مسؤولا عما يفعل. وليس نظاما برلمانيا يقود إلى الفشل، ولا أحد يعرف من هو المسؤول.
عشرية الفوضى يجب أن يوضع لها حد، على الأقل، لأنها قادت البلاد إلى الوقوف على حافة هاوية، من كل الوجوه. اقتصاديا، لم تعد البلاد تنتج كما كانت. وميزانيتها ظلت تواجه عجزا يتفاقم من عام إلى عام، حتى صارت تتطلب تدخل جهات إقراض دولية. ومعدلات الفقر والبطالة والتضخم ظلت ترتفع. وهناك ترهل إداري يصرخ في الوجوه، ومطالب نقابية لا تتوفر موارد لتلبيتها. وسياسيا، فإن صراعات الأحزاب داخل البرلمان وخارجه حولت البلاد إلى حلبة ملاكمة. بعضها كان ملاكمة بالفعل يقوم بها نواب ضد نواب آخرين يخالفونهم الرأي. وبينما ظلت تلك الأحزاب تنشغل في تدبير المناورات ضد أحدها الآخر، فإن تشرذمها كان علامة تدل على أن العمل السياسي صار منخورا بالفساد والطموحات الشخصية، حتى ولو على حساب الاستقرار والمصالح العامة.
تدهور الأوضاع الاقتصادية لم يدفع سلطة الأحزاب إلى التوقف للبحث عن مخارج من الأزمة. ومن حكومة إلى أخرى، فقد أدى انحدار الممارسة السياسية إلى أن أصبحت البلاد تقف على فوهة بركان.
هذا الواقع هو الذي دفع الرئيس قيس سعيد إلى اتخاذ إجراءات التغيير التي بدأت في الخامس والعشرين من يوليو الماضي.
أصحاب عشرية الفوضى، وفي مقدمتهم “حركة النهضة” التي قادت مسارات الفشل، لم يتوقفوا عن محاولاتهم لإطالة أمدها، بالاحتجاجات على إجراءات التغيير. إلا أن المجتمع التونسي كان يعرف بمحض الوعي الجمعي أن هذه الفوضى يجب أن تتوقف، وأن مسارا جديدا للبلاد يجب أن يبدأ.
الدساتير لا تولد كاملة. وما من دستور إلا واستوجبت الظروف تعديلات عليه. وفي النهاية فإن القول الأخير فيه هو للتونسيين أنفسهم
هذا الوعي هو الذي يدل التونسيين على أن بلادهم، فوق كل سجال محتمل، في حاجة إلى رئيس. نقطة رأس السطر. لا شيء أبسط من بداهة هذه الحقيقة. رئيس يقود ويوجه ويتحمل المسؤولية، ويخضع لمراقبة شعبه؛ رئيس لا يرعى مصالح شخصية لنفسه. ولا يرعى مصالح حزبية ترتفع فوق مصالح البلاد.
قيس سعيد جاء إلى السلطة من باب نزاهة اليد أولا. ومن باب الإخلاص للمصالح العامة. لم يكن وراءه حزب. ولا كانت وراءه عصبة تُطبّل له. حتى قصر قرطاج، فقد أُجبر على الإقامة فيه، لأسباب أمنية ولخفض التكاليف، بينما كان يريد أن “يداوم” فيه كما يداوم أيّ موظف في مقر عمله، إيمانا منه أنه، حتى في موقع الرئاسة، إنما يؤدي خدمة عامة. وهذا أمر ينظر إلى المنصب كوظيفة أكثر منها كـ”سلطة”. وبطبيعة الحال، كمسؤولية، الأخلاقي فيها أعلى شأنا من السياسي.
ولقد كان من الطبيعي أن يسعى كل دعاة الفوضى، وكل الذين حوّلوا السياسة إلى سوق مصالح و”تمكين”، إلى التنديد بإجراءات التغيير، وإلى إثارة المخاوف حول مصير “الديمقراطية” التي سرقت لقمة العيش من أفواه الملايين.
بعض السجال حوّل الدستور الجديد إلى مشروع ومفهوم في إطاره القانوني. وهو سجال لا تخلو منه ساحة أيّ دستور. ومن المفيد تماما أن يستمر لأجل أن تبلغ النصوصُ حدا أفضل من الكمال. بل وفي بيئة الفوضى المستمرة، فإن العجالات، من أجل الخروج من دوائرها الشريرة، يمكن أن تنطوي على نصوص قد تحتاج إلى المزيد من المراجعة والتفصيل.
ولكن البعض الآخر من السجال يكشف عن كل الأغراض الأخرى التي لا تقصد الإصلاح، وتريد العودة إلى تلك العشرية المريضة، تحت أيّ ذريعة. وهي لهذا السبب تتجاهل المقاصد، أو الركائز الأساسية التي يقف عليها مشروع الدستور الجديد.
البلاد في حاجة إلى رئيس. هذه هي الركيزة الأولى. وهي في حاجة إلى مؤسسات تتصرف كل منها كمؤسسة وظيفية، لا كـ”سلطات” متنازعة، تُضعف أو تُناكف إحداها الأخرى. هذه هي الركيزة الثانية. أما الثالثة، فهي تقول إن البلاد في حاجة إلى مسؤولين يؤدون واجبات حيال المصلحة العامة، لا مسؤولين يحتلون مناصب لخدمة أغراضهم الشخصية أو الحزبية.
هذا هو المعنى الوحيد من وراء تغيير مفهوم “السلطات” لكي تُصبح مؤسسات تؤدي “وظائف”. الرئيس نفسه ينظر إلى “سلطته” على أنها وظيفة. يقول المثل: “مَنْ يشتريك بسعره هو، ما ظلمك”.
تونس، في النهاية، تستطيع أن ترى الركائز. ومن الخير أن تقول، على أساسها، القول الأخير.
الخلافُ مع رئيس لجنة صياغة الدستور، مفاجئٌ، وصادم. ويعكس خللا في آليات التشاور. ولكنه يعكس إرادة صريحة للرئيس قيس سعيد، بأن تكون له الكلمة الأخيرة، في كل شأن. هذا هو ما يصنع له صورة “الدكتاتور”. وهي الصورة التي يركز عليها معارضوه. بعض هؤلاء المعارضين، يتخذ من معارضته لـ”الدكتاتور” ستارا لمعارضة الإصلاح. ويركز على ما يبدو أنه نقطة ضعف، وفقا لمقاييس الصورة التي يتعين أن يظهر بها رئيس عاجز.
الخلافُ مع رئيس لجنة صياغة الدستور، مفاجئٌ، وصادم. ويعكس خللا في آليات التشاور. ولكنه يعكس إرادة صريحة للرئيس قيس سعيد، بأن تكون له الكلمة الأخيرة، في كل شأن
يشعر الرئيس سعيد على أيّ حال، أنه يملك تفويضين. الأول، التفويض الشعبي الكاسح الذي انتخب رئيسا على أساسه، وهو تفويض لم تحصل عليه كل الأحزاب التونسية مجتمعة. والثاني، الأزمةُ التي صنعتها تلك الأحزاب، حتى قادت تونس إلى حافة الانهيار الشامل. وهذا ما يدفعه إلى تجاهل الأحزاب والترفع عليها. فالذين صنعوا الأزمة، لا يصلحون أن يكونوا جزءا من الحل. وهم لا يقدرون عليه من الأساس، ولو أنك فتحت لهم الباب، فإنهم لن يتأخروا في تدمير كل شيء من جديد.
البلاد ليست بلا قيادة فقط. إنها بلا وجهة أصلا. وهذا ما يوفر دافعا آخر لكي يتصرف سعيد كـ”دكتاتور”. وهو إلى ذلك، لا يثق بأحد. ما يجعله فردا في مواجهة حشود. وهو ليس “سياسيا” أيضا. كما لا يحرص كباقي السياسيين على أن يصنع لنفسه “صورة ترضي الجميع”.
ولكن هذا كله، لا يغني البلاد عن معرفة الطريق.
الافتقار إلى قيادة في بيئة الفوضى يزيدها سوءا. وضياع البوصلة يدفع إلى الفشل التام.
الخروج من دائرة الفوضى هدف أسمى. إنه الخطوة الأولى لوضع البلاد على سكة الإصلاح الإداري والاقتصادي والسياسي. وما من دستور، إلا ويضاف إليه أو يُعدّل عليه، بإخلاص البحث عن سبيل لدرجة أعلى من الكمال.
الدساتير لا تولد كاملة. وما من دستور إلا واستوجبت الظروف تعديلات عليه. وفي النهاية فإن القول الأخير فيه هو للتونسيين أنفسهم.
الرئيس قيس سعيد الذي استحق ثقة ثلاثة أرباع الناخبين وهو وحيد، يرى أنه يستحقها، حتى ولو بقي وحيدا. إنه بهذا المعيار أقرب الى صورة “الدكتاتور” من صورة السياسي الذي يسعى لإرضاء الجميع.
النظام البرلماني الذي أرساه دستور 2014، كان فاشلا بالشاهد والدليل الملموس. مما بات يستوجب التغيير. والفشل هو الذي صنع حاجة البلاد إلى رئيس يقود الخروج من الأزمة. هل هذا اكتشاف عجيب؟