عبد الحميد صيام يكتب:

في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر

الجزائر

في عام 2012 احتفلت الجزائر بالذكرى الخمسين للاستقلال تحت شعار «ما زال واقفين» وهو شعار يوحي بالتصميم على تخطى عقبات جمة كادت تطيح بالدولة. وفي الذكرى الستين تحتفل الجزائر لمدة عام كامل تحت شعار «تاريخ مجيد وعهد جديد». والفرق بين الشعارين كبير- فالأول يشير إلى بلد يواجه الصعوبات ومصمم على تجاوزها، والثاني يدل على أن البلد ينطلق نحو مرحلة جديدة لبناء مستقبل زاهر لنحو 45 مليون إنسان، استنادا إلى روح الثورة العظيمة التي ظلت حيّة في العقول والقلوب.

مصاعب بناء الدولة

كما ذكرنا في مقالنا السابق، لقد انتصار الشعب الجزائري على المستعمر الفرنسي عالي الثمن. لكن بناء دولة ما بعد الاستقلال لم يكن سهلا على الإطلاق. فقد تعرضت البلاد إلى عثرات كبرى كادت أن تجرف منجزات الثورة العظيمة. تركت فرنسا بلدا من دون ميزانية ومن دون كوادر فنية ومن دون صناعة أو تجارة مستقرة. فمع اقتراب موعد إعلان الاستقلال، فرّ من البلاد نحو ثمانمئة ألف مستوطن أوروبي كانوا يتحكمون في كل مفاصل البلاد الاقتصادية والصناعية والتجارية. وقام بعض المستوطنين بتدمير المصانع والمرافق والمؤسسات الخدمية، تاركين بلادا خاوية من دون كوادر إدارية.
فمن بين 120 ألف موظف حكومي لم يبق إلا 15000 موظف. أخليت المؤسسات الحكومية والمدارس والمنشآت الصناعية والتجارية والمزارع من أصحابها. وكان لا بد من التصرف بسرعة لتوزيع الأراضي الزراعية، التي زادت عن 2.5 مليون فدان (10 ملايين دونم) على ملايين الفلاحين والعمال، الذين وجدوا أنفسهم خارج العمل. الكوادر الطبية والصحية غادرت البلاد تاركة فراغا مهولا في مجال الصحة، أمام حكومة أحمد بن بلّة عديمة الخبرة. ففي مستشفى تلمسان مثلا ذي الـ300 سرير لم يبق إلا ثلاثة أطباء فرنسيين. وصل البلاد عدد من الأطباء المتطوعين من بلغاريا وبعض الدول الإشتراكية ومصر، لكنهم كانوا غرباء على الأنظمة واللغة فكان أداؤهم متواضعا. وكان على القيادة الجديدة أن تتعامل مع عودة ثلاثمئة ألف لاجئ ومليوني مشرد داخليا، هدمت قراهم ومساكنهم، وعشرات الألوف من المقاتلين الذين بحاجة إلى استيعاب في مؤسسات الدولة الحديثة، وعشرات الألوف من السجناء الذين تنفسوا الحرية. استطاع جيش التحرير بقيادة رئيس الأركان هواري بومدين وبدعم من أمين عام الجبهة محمد خيضر، إنهاء حالات الانقسام وفوضى السلاح والخلافات بين قوات الخارج والداخل، وتمرد الولاية السادسة، وتم تنصيب حكومة أحمد بن بلة وبدأت البلاد تستقر لكن ببطء شديد. واجهت الجزائر أول أزمة جادة مع المغرب، بعد زيارة للملك الحسن الثاني للجزائر في مارس 1963، ليطالب باسترجاع الأراضي التي ضمتها فرنسا للجزائر عام 1950، فطلب الرئيس بن بلة من ملك المغرب تأجيل مناقشة الأمر إلى حين استكمال بناء مؤسسات الدولة الحديثة. إلا أن الجزائر فوجئت بحرب الرمال في أكتوبرعام 1963 في منطقة تندوف وحاسي البيضاء، لكن الحرب لم تطل، حيث استطاعت الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية أن تحتوي الصراع بسرعة وتقنع الطرفين بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في باماكو في 20 فبراير 1964. في عام 1969 تم توقيع معاهدة التضامن والتعاون في إيفان، ما أدى إلى تحسين العلاقات، والتوصل إلى تفاهم حول ترسيم الحدود في تلمسان بالجزائر عام 1970، ونتج عن التفاهمات تحرير اتفاقية ترسيم حدود نهائية عام 1972. مرت العلاقات بين البلدين في فترة مودة بين عامي 1970 و1975 لغاية اتفاقية مدريد مع الحكومة الإسبانية عام 1975 بتقاسم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا، وإطلاق «المسيرة الخضراء» للسيطرة على الصحراء. اعتبر بومدبن ذلك انتهاكا لاتفاقية تلمسان، التي وقعها مع الملك الحسن الثاني يوم 27 مايو 1970 التي تنص على العمل معا لإنهاء الاستعمار الإسباني من الصحراء وإعطاء السكان الأصليين حق تقرير المصير. تركت تلك التطورات شرخا عميقا في العلاقات لم يندمل مع الأيام بل زاد اتساعا وخطورة، بعد اتفاقية التطبيع المغربية مع الكيان الصهيوني عام 2020.

التحرر الاقتصادي والثقافي

الانفكاك عن فرنسا لم يكن سهلا في البداية، خاصة في ميدان النفط والإدارة ولغة التدريس، لكن بومدين كان مصمما على التحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية. وقد كان لقراره الشجاع بتأميم النفط عام 1971 أعظم الأثر، فقد جن جنون فرنسا ودفعها إلى فرض عقوبات اقتصادية هائلة كادت أن تطيح بالبلاد، لولا المساندة من بعض الأشقاء العرب بتأمين احتياطي من العملة الصعبة إلى أن استطاع الاقتصاد المحلي استيعاب المضايقة الفرنسية بالتعافي بعد ارتفاع أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973. كان ذلك التأميم أشبه بقرار جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس عام 1956 الذي أدى إلى العدوان الثلاثي. وكما أفشل ناصر العدوان الثلاثي، وأصبحت مصر متحررة سياسيا واقتصاديا، أفشل بومدين العدوان الاقتصادي الفرنسي، وبالتالي أنجزت الجزائر استقلالها الاقتصادي بعد تسع سنوات من الاستقلال السياسي. استقبلت الجزائر مؤتمر دول عدم الانحياز الرابع في سبتمبر 1973، وتقدم بومدين بعدها بطرح رؤيته في «النظام الاقتصادي الجديد» في الجمعية العامة عام 1974 الذي اعتمد في قرارين في مايو 1975. وأصبحت الجزائر في موقع القيادة لدول العالم الثالث آنذاك، وتشغل الدور المصري الذي أخلاه الرئيس عبد الناصر بعد رحيله. واجهت البلاد مسألة الفرنسة وانتشار اللغة الفرنسية، خاصة للطبقة الوسطى التي تدير شؤون البلاد. والاستقلال الثقافي، في رأينا، كان الأصعب والأخطر والأطول عمرا ومعاناة. وأستطيع أن أقول الآن وبعد زياراتي المتكررة للجزائر وآخرها في نوفمبر 2021 وبعد نحو 60 سنة من التعريب المتواصل، إن الجزائر كادت أن تتحرر ثقافيا من هيمنة اللغة الفرنسية، بعد أن أنجز تعريب جميع الدوائر والوزارات والإدارات. صحيح لا نستطيع أن نقول إن الجزائر تخلصت تماما من موروث اللغة الفرنسية واختلاط مفرداتها في الحياة اليومية، لكن العربية ترسخت تماما ولا تجد مسؤولا، أو أستاذا أو طالبا لا يتحدث اللغة العربية.

قد لا يكون الحراك حقق كل المطالب، لكن الحقيقة أن هناك جزائر جديدة وحكومة مدنية منتخبة وتعمل على ردم كثير من السلبيات والعثرات

العشرية السوداء

أكبر التحديات التي واجهتها الجزائر كان في العشرية السوداء، كما يسميها الجزائريون، في إشارة إلى سنوات صراع الإرادات بين جبهة الإنقاذ الإسلامية، التي اكتسحت صناديق الاقتراع عام 1991، والجيش الذي قام بإلغاء نتائج الصناديق قبل وصول الجبهة إلى سدة الحكم، ذلك الإلغاء أدخل البلاد في شبه حرب أهلية بين جيش متمكن وقوي وملتزم، وجماعات مسلحة آثرت أن تحسم الصراع لصالحها بالقوة المسلحة وتدمير بنية الدولة. لقد وجهت سلاحها إلى مؤسسات الدولة ثم إلى الكتاب والصحافيين والمغنين وانتهت بذبح الأبرياء من أبناء القرى والأرياف وركاب الحافلات. لقد هزم الجيش تلك الجماعات المتطرفة المسلحة عسكريا لثلاثة أسباب رئيسية: غياب الحاضنة الشعبية، حيث أصبح المسلحون فئات منفصلة عن الشعب تعيش حياة التشرد في الجبال، وتمارس الإرهاب ضد المدنيين، ما أفقدها أي نوع من الغطاء الجماهيري. والسبب الثاني تماسك الجيش والحزب، واحد يحمي البلاد والثاني يديرها بالتنسيق مع الأول. والسبب الثالث هو دعم الدول الكبرى لموقف الجزائر، حيث قطعت سبل الدعم كافة للجماعات المسلحة، إلا من بعض الخيوط الخليجية. وعندما طرح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فرصة المصالحة والعفو الشامل في مستهل ولايته الثانية عام 2004 عاد آلاف الشباب من الجبال وانتهى التمرد المسلح مرة وإلى الأبد.

جزائر ما بعد الحراك

مرت البلاد في العهدتين الثالثة والرابعة لبوتفليقة بالجمود، وانتشار الفساد، وتهريب الثروات إلى الخارج. وكانت الطبقة الحاكمة تعتقد مخطئة بأن الشعب الجزائري قد عزف عن السياسة، وأن جل أمانيه الهجرة إلى الخارج، إلا أن الشعب وبعد إعلان ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة شعر بأنه أصيب في كرامته «فقد طفح الكيل» ولم يعد من مناص إلا الخروج إلى الشارع. ألوف مؤلفة خرجت يوم الجمعة 22 فبراير 2019 في مسيرات عظيمة وملايين الحناجر تقول كفى و»لا لعهدة خامسة» و»الشعب يريد إسقاط النظام»، و»الجزائر قالت لا للتمديد». وكانت المسيرات المتواصلة كل أسبوع في غاية الحضارية والتنظيم والسلمية، فلا كسروا شجرة ولا اعتدوا على متجر، ولا أطلقوا شعارات تسيء لأحد، بل بقيت الهتافات والمسيرات والاحتجاجات كلها إيجابية. قد لا يكون الحراك حقق كل المطالب، لكن الحقيقة أن هناك جزائر جديدة وحكومة مدنية منتخبة وتعمل على ردم كثير من السلبيات والعثرات. احتفالات الذكرى الستين جاءت على خلفية الحراك الجماهيري العظيم الذي كان مناسبة للتأكيد على أن الجزائر في طريقها الآن إلى التعافي الاقتصادي وتتقدم بخطى واثقة نحو التعددية والديمقراطية والسلم الأهلي والاستقرار فالازدهار.