غسان شربل يكتب:

بايدن والرجوع إلى «التانغو»

يقول خبراء «التانغو» إن هذه الرقصة تبدو بسيطة للوهلة الأولى لكنها ليست كذلك. نجاحها يستلزم قناعة راسخة بالحاجة إليها، ولياقة نفسية وجسدية، وقدرة على الاستماع بعمق إلى الشريك، إلى تطلعاته ومخاوفه وهواجسه. لا ينفذ الرقصة واحدٌ من طرفيها، بل تحتاج إلى الاثنين، وإلى توقيع الخطوات في اللحظة المناسبة، والمسارعة إلى التصحيح واستعادة الانسجام. ومن شروط النجاح ألا تملي إرادتك على شريكك، أو تطالبه بأن يكون مجرد نسخة منك. الاختلاف يثري الرقصة، والالتزام هو الضمانة. ليس من حقك أن تستقيل من الشراكة عند المنعطفات، ففي هذا العالم تتضاعف الحاجة إلى «التانغو». وما يصدق على العلاقة بين الأفراد يصدق أيضاً على العلاقة بين الدول. تقوم الرقصة على قراءة دقيقة للمصالح المتبادلة، وكل رقصة تحتاج إلى صيانة دائمة، على قاعدة المصالح وحسابات المسافات الطويلة.

الولايات المتحدة عملاق اقتصادي وسياسي وعسكري وتكنولوجي، تتأثر خطواتها أحياناً بتبدل الإدارات والاجتهادات. وترتبك الرقصة معها أحياناً لكن الحسابات الواقعية تعود إلى التغلب على ما عداها. الكلمة الأخيرة هي للمصالح، مصالح الحاضر ومصالح المستقبل. لا يستطيع أي عملاق أن يرقصَ منفرداً، بل لا بد من شركاء، ولا بد من شراكات قابلة للعيش والاستمرار، لا مفر من العودة إلى أصول التانغو.

من حق المتابع للشأن الدولي أن يطرح أسئلة صعبة ومتأخرة: هل كان العالم سيصل إلى ما وصل إليه لو حرصت الولايات المتحدة على تنفيذ رقصة التانغو مع روسيا الوافدة من الركام السوفياتي؟ وهل كانت روسيا ستشعر بالحاجة إلى مشروع كبير للثأر كُلف فلاديمير بوتين بحمله رداً على تغليب الشريك هاجس الانتصار على أصول «التانغو»؟ وماذا يبقى من الرقصة حين يحرك حلف «الناتو» بيادقه باتجاه الحدود الروسية؟ أوليس أول شروط الرقص أن تستمع بعمق إلى هواجس شريكك؟ أسئلة متأخرة فقد وقع الزلزال.

سياسات ما بعد الزلزال لا تشبه ما قبله. ويتأكد الأمر حين يكون الزلزال شاملاً وينذر بعواقب وخيمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وفي مناطق بعيدة عن مسرحه الحالي. وبهذا المعنى يمكن القول إن الزلزال الأوكراني غير مسبوق، ليس فقط في عالم ما بعد انهيار جدار برلين، بل أيضاً في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

منذ اللحظة الأولى اقتحمت الحرب الروسية في أوكرانيا مكتب الرئيس جو بايدن. لا يمكن اعتبارها نزاعاً حدودياً، وهي أخطر من مجرد إعادة لغة الحرب إلى القارة الأوروبية. إنها انقلاب واسع على النموذج الذي هزم الاتحاد السوفياتي ودمره. ولا يقتصر الأمر على انخراط دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن في حرب لتغيير الخرائط والمعالم. إنها حرب تخاض بالترسانة العسكرية لدولة نووية، فضلاً على أسلحة الطاقة والقمح. وقد وجد بايدن نفسه في وضع صعب. الاستقالة من مصير أوكرانيا أكبر من قدرة أميركا والغرب على الاحتمال، والانزلاق إلى مواجهة مباشرة بين حلف «الناتو» والجيش الروسي أكبر من قدرة العالم على الاحتمال. وكان الخيار الأميركي والأوروبي قد دعم أوكرانيا لجعل الغزو الروسي باهظَ التكاليف وغير قابل للتكرار. وسرعان ما اتضح أن العالم وقع في فخ حرب طويلة يصعب حسمها ويصعب الخروج منها.

في ظل هذه اللوحة تنعقد هذا الأسبوع على أرض السعودية لقاءات جدة التي تعني مستقبل الشرق الأوسط. قمة أميركية - سعودية وأخرى أميركية - خليجية - عربية. مجرد انعقاد اللقاءات هذه يعني عودة الشرق الأوسط إلى موقع الاهتمام لدى واشنطن، التي كانت قد بدأت منذ سنوات رحلة الابتعاد عن هذه المنطقة للتفرغ لاحتواء الصعود الصيني. اكتشفت واشنطن أن الشرق الأوسط لا يزال (حاجة)، وأنه لا يزال يمتلك مفاتيح استقرار أسواق الطاقة، على رغم التبدلات التي طرأت على حاجة الولايات المتحدة إلى نفط المنطقة.

ولم تكن الإدارة الأميركية تحتاج إلى جهد كبير لتتذكر أهمية استقرار الشرق الأوسط وسلامة إمدادات الطاقة منه، في وقت تطل ملامح خريف أوروبي صعب بفعل تبعية القارة القديمة للغاز الروسي. ولا يقتصر الأمر على الحسابات المتعلقة بروسيا وحدها، بل يتعداها إلى الملفين الصيني والإيراني أيضاً. لا تستطيع أميركا الاستقالة من مصير الشرق الأوسط حين يتبين أن ما يجري على أرض أوكرانيا هو جزء من برنامج كبير يعتبر انقلاباً كاملاً على التوازنات التي كانت قائمة في العالم قبل خمسة أشهر.

ولا غرابة أن تنعقدَ هذه المواعيد المهمة على أرض السعودية وبمشاركة خليجية ومصرية وأردنية وعراقية. ثقل السعودية العربي والإسلامي والدولي تضاعف في السنوات الأخيرة بفعل النهضة التي أطلق شرارتها الأمير محمد بن سلمان، وحولت بلاده قاطرة استقرار وازدهار. السعودية الجديدة شريك لا بد منه في التطلع إلى شرق أوسط مستقر ومزدهر. فمنذ سنوات انخرطت السعودية في ورشة لتحسين مستوى حياة مواطنيها، وهو ما جعلها مصدر إلهام على امتداد العالمين العربي والإسلامي. شراكات وجسور وعلاقات على قاعدة المصالح المتبادلة ومسؤولية في التعامل مع الملفات الإقليمية والدولية. وحركة تقدُّم طوت صفحة الأيام التي كانت فيها الأفكار المتشددة قادرة على البلبلة والاستدراج وشل المجتمع وكبح الطموحات.

اجتازت علاقات أميركا مع أصدقائها العرب في المنطقة، بمن فيهم السعودية، امتحانات صعبة. شعرت دول كثيرة أن أميركا ابتعدت عن أصول التانغو وقواعد الاستماع العميق إلى الشركاء وتفهم هواجسهم فيما يتعلق بملفات قديمة وأخرى جديدة تمتد من النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى اليمن، مروراً بفصول الاتفاق النووي مع إيران، وإصرار طهران على مواصلة تصدير سياسة زعزعة الاستقرار. لا بد من انتظار النتائج، لكن الواضح أن إدارة بايدن تحاول العودة إلى أصول «التانغو». ما بعد الزلزال الأوكراني ليس كما قبله.