علي الصراف يكتب:

مؤشر للتوتر في عالم يغرق بالعنف

لندن

تسجل العلاقات الدبلوماسية بين العديد من الدول تراجعات خطيرة، قد يكون الغزو الروسي لأوكرانيا سببا في تأجيجها، إلا أنها لا تتصل بالضرورة بهذا الغزو. وتذهب تبعاتها إلى ميادين لم يسبق للتوترات الدبلوماسية أن وصلت إليها، حتى أصبحت تهدد استقرار أنماط العيش نفسها.

ما يحصل هو أن المشكلات التي بقيت من دون حلول، تتجه المخاطبات بشأنها الآن إلى مستوى غير مسبوق من العبارات الحادة، أو التي تنطوي على تهديد، أو تكشف عن هوة تتسع. وذلك بينما تتراجع في المقابل فاعلية الدبلوماسية في تقديم لغة وسيطة.

وفي حين توجد مؤشرات عالمية للفقر والفساد والمناخ والجوع وتفشي الأمراض، توفر فرصة لرؤية الصورة الأوسع في المجال الذي تُعنى به، إلا أنه لا يوجد “مؤشر عالمي للتوتر” يعكس مستوى التراجع أو التقدم في طبيعة العلاقات بين الدول.

هذا المؤشر يمكن أن يأخذ من لغة التخاطب المباشر بين الحكومات بشأن الأزمات كواحد من عناصره. إلا أنه يتعين أن يحصر مستويات التوتر العام، فضلا عن مستويات التوتر في كل أزمة على انفراد. ومدى تأثير كل واحد منها على معدلات المؤشر العامة.

الفائدة الرئيسية هي تقديم إطلالة عريضة لطبيعة الأزمات، وما إذا كانت تتجه إلى المزيد من التصعيد. وهو أمر يمكن أن يساعد في التنبؤ بما إذا كانت أزمة من الأزمات سوف تنتهي إلى حرب، في حدها الأقصى، أو ما إذا كانت تتراجع لتستعيد مستويات مناسبة تسمح بالتوصل إلى حلول. كما أنه يمكن أن يساعد صناع القرار في النظر إلى موطئ أقدامهم.

توجد مؤشرات عالمية للفقر والفساد والمناخ والجوع والأمراض توفر فرصة لرؤية الصورة الأوسع لا يوجد "مؤشر عالمي للتوتر" يعكس مستوى التراجع أو التقدم في طبيعة العلاقات بين الدول

المتداول الإعلامي، بشأن هذه الأزمة أو تلك، يمكن أن يشكل عنصرا مهما في تقديم تقدير واقعي لمستوى الخطاب العام حولها، وما إذا كانت هناك مستويات غير مألوفة من التحشيد لتكوين رأي عام يدفع إلى التصعيد أو يدفع إلى التهدئة.

في حدود ما هو جارٍ الآن، يمكن إحصاء مجموعة من الاختناقات التي تؤكد أن مستويات التوتر تزداد.

الحرب في أوكرانيا، وما تلاها من عقوبات على روسيا، أنتجت علاقات متوترة بلغت حدا قريبا من القطيعة الشاملة بين مجموعة الدول الغربية وروسيا. ورفعت مستويات التوتر مع الصين أيضا.

مع إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي عن رغبتها بزيارة تايوان، وجهت الصين تحذيرات إلى الولايات المتحدة “من اللعب بالنار”. واعتبرت الزيارة “خطا أحمر”، رغم أن الرئيس السابق لمجلس النواب نيوت غينغريتش قام بزيارة مماثلة في العام 1997، ولم يتسبب الأمر بالوقوف على حافة التهديد بحرب.

و”اللعب بالنار” قائم في الواقع، من حيث الأعمال العسكرية التي تقترب من مستويات الاشتباك المباشر في مضيق تايوان. وهناك حشود عسكرية ظاهرة، ينطوي بعضها على استفزازات واختبارات جس نبض في بحر الصين الجنوبي وبين الصين واليابان.

المحادثات التي استمرت لنحو ساعتين بين الرئيسين الأميركي جو بايدن، والصيني شي جين بينغ، كررت خطاب التوتر نفسه بشأن تايوان، ولم تقدم إلا القليل من التهدئة.

هذا الأمر لا يبدو على صلة مباشرة بالحرب في أوكرانيا، ولكن من الواضح أن هذه الحرب تترك بصمة واضحة على العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، تعود في جانب منها إلى المخاوف الأميركية من أن تتخذ بكين السبيل الذي اتخذته موسكو في أوكرانيا حيال تايوان. وتعود في جانب آخر إلى دعم الصين لروسيا، بما قد يُفضي إلى إقامة نظام عالمي جديد يكسر الهيمنة الأميركية على عالم ما يزال “أحادي القطب”.

المحادثات الأولى، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بين وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، انتهت هي الأخرى إلى الفشل. أراد أنتوني بلينكن أن يعرض صفقة تبادل سجناء، ولكنه أراد أن يعرف ما إذا كان لدى روسيا أي استعداد لوضع حد للحرب في أوكرانيا.

سيرجي لافروف رد في البداية على الدعوة لإجراء مشاورات مع نظيره الأميركي بالقول “إنه ليس لدية وقت الآن”، ولكنه وجد وقتا بعد نحو 24 ساعة من ذلك. ما يهم، في جولة جس النبض، أنها انتهت إلى فشل ذريع. روسيا لم تُظهر عزما على التراجع عن “تحقيق كل أهدافها” في أوكرانيا. بينما قالت الولايات المتحدة إن مساعي روسيا للاحتفاظ بأراض أوكرانية مرفوضة تماما، وإن مزيدا من العقوبات سوف يُفرض على روسيا، وإن أسلحة أخرى سوف تقدم لأوكرانيا للدفاع عن نفسها.

التوتر في العلاقات بين ألمانيا وروسيا بشأن الغاز يندفع إلى أقصى المستويات، بالتهديد الروسي الصريح، أو المتزايد صراحة، على عزم موسكو وقف إمدادات الغاز إلى برلين.

ملف العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "خمسة زائد واحد" لم يُغلق بعد، إلا أن الجهود لإحياء الاتفاق تتعثر. وهو ما يدفع الأزمة بين إيران والولايات المتحدة إلى مستويات أعلى من التوتر

وزير الاقتصاد ونائب المستشار الألماني روبرت هابيك رد على المعاذير التي تبتكرها “غازبروم” الروسية بشأن مشكلات الإصلاح في خط الغاز “نوردستريم 1” بالقول “إنهم يكذبون عليك في وجهك”.

هذا التعبير يعني، صراحة، أن “الكيل قد فاض” ببرلين، وأن الأزمة سوف تبلغ في النهاية، ربما خلال أيام، حد وقف شحنات الغاز كليا.

روسيا تقول ضمنيا “تريدون تحطيم اقتصادنا. سوف نحطم اقتصادكم في المقابل”.

وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ذهبت في زيارة إلى اليونان وتركيا لتهدئة التوترات بين هذين البلدين، إلا أنها عادت بما هو أكثر من الفشل. عادت بتوتر إضافي في العلاقة بين ألمانيا وتركيا بسبب رفض تركيا قبول دعوة المحكمة الأوروبية لإطلاق سراح الناشط السياسي عثمان كافالا المحكوم مدى الحياة في أنقرة. وأدى طرح الموضوع إلى انفعالات خارجة عن المألوف في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو، بينما بقي التوتر في العلاقة بين أثينا وأنقرة على مستواه الذي يقف على حافة مواجهة عسكرية في بحر إيجة.

أنقرة عادت لتستأنف التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، وهي تعرف أن هذا الموضوع مصدر توتر رئيسي بينها وبين نيقوسيا وأثينا. وبالنظر إلى الترابط بين هاتين العاصمتين مع القاهرة، فإن الأخيرة تجاهلت المغازلات التركية لرفع مستوى المحادثات بينهما.

وهناك توترات تصل إلى مستوى التهديد بالصدام بين تركيا وسوريا من جهة، وبين تركيا والعراق من جهة أخرى.

ملف العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “خمسة زائد واحد” لم يُغلق بعد، إلا أن الجهود لإحياء الاتفاق تتعثر. وهو ما يدفع الأزمة بين إيران والولايات المتحدة إلى مستويات أعلى من التوتر؛ المواجهة العسكرية واحدة من أشكاله.

وهناك سلسلة أخرى من التوترات التي تؤكد أن العلاقات الدولية تسير في منحى يجعلها بعيدة كل البعد عن ذلك العالم الذي يتخذ من المخاطبات الهادئة سبيلا لتسوية المشاكل.

كل شيء يتفاقم، ابتداء من الدبلوماسية، مرورا بالتوترات التجارية وتعثر سلاسل الإمداد، وصولا إلى رغيف الخبز.

الحقيقة الجلية هي أننا نسبح في مياه لا نعرف عمقها. ولغة العنف تهددنا بالغرق.