محمد أبوالفضل يكتب:
أي تعايش سياسي في مصر
نكأت دعوة وجهها عضو لجنة العفو الرئاسي في مصر المحامي طارق العوضي الكثير من الجروح السياسية التي بحاجة لمعالجة شاملة، لأنه دعا أخيرا إلى تعايش سلمي وتجاوز مرارات الماضي ولم يحدد آلية محددة لتحقيق هذا الهدف، وإن كان وضعَ خطوطا عريضة حصرها تقريبا في ملف المحبوسين ومشتقاته المختلفة.
قذف العوضي بالكرة في ملعب السلطات الحاكمة دون غيرها، لأن بيدها الأمر والنهي، أو لأن القوى المستهدفة بالتعايش، وهي الطرف الثاني المقصود، لا تملك من أمرها شيئا. وقد يجر التفتيش في الاستنتاجات التي تنطوي عليها دعوته سلسلة طويلة من التكهنات والتخمينات، التي توحي بما يجب عمله أو تجاهله.
انتظر من ينظرون للدور المهم الذي يلعبه العوضي أن يمد الخط على استقامته ويطالب جماعة الإخوان، كما طالب السلطات بإجراءات لبناء الثقة، باتخاذ خطوات جادة تؤكد أنها تخلت عن طريق العنف تماما الذي لعب دورا في مراكمة المرارات لدى شريحة كبيرة من المصريين، باعتبارها الطرف الثاني المعني بهذه الخطوة.
أتفهّم وغيري الحساسية التي صاغ بها طارق العوضي خطابه الذي نشره على صفحته الخاصة على فيسبوك يوم الجمعة، وأراد منه تجنّب اتهامه كالعادة بأنه منتمٍ لجماعة للإخوان أو محسوب عليها أو أي من العبارات التي تحمل تشكيكا في أغراضه.
لكن ليس من المفهوم ألا يوجه كلمة واحدة صريحة للجماعة لتقلع عن المنهج الذي تتبناه منذ سنوات ولا تريد تجاوزه، على الرغم من كل المحن التي مرت بها وما خلّفته تصرفاتها القاتمة من أزمات لا يزال يعاني من رواسبها المجتمع المصري وتحتاج قدرا كبيرا من المكاشفة من كل المهتمّين بالتعايش السلمي.
قد يكون طارق العوضي قذف بحجر ثقيل أصاب أهدافا شتى ويقصد شيئا معيّنا، فالقراءة الدقيقة تتطلب مراجعة من الجميع، لأن الدولة لن تستطيع التغلب على التحديات التي تواجهها وبعض جدرانها متصدعة
استغل العوضي قطار الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي وبدأ يتحرك من محطته الأولى ليضفي على دعوته شيئا من المصداقية، حيث يستثمر الأجواء العامة التي تدفع إلى التطرق لهذا النوع من القضايا، لكنه لم يجد تفاعلا لا من النظام الحاكم أو القوى القريبة منه أو حتى الطرف الثاني الذي قصدته دعوته، سواء أكان جماعة الإخوان أم القوى السياسية المشغولة مثله بالتعايش السلمي.
أصبحت القضية في مصر أكبر من دعوة تأتي من هنا وهناك لإبراء الذمة أو التفاخر بأن أصحابها لديهم جرأة في توجيه اللوم ولو من بعيد للحكومة، لأن التجريف الذي تعرض له المجتمع المصري وقواه السياسية البريئة وغير البريئة يصعب معالجته بدعوة يجب أن تتوافر لها جملة من المكونات اللازمة لتمكينها من النجاح.
قد يطلق العوضي وأمثاله من المهمومين بقضايا الناس والحقوق والحريات دعوة تحمل براءة سياسية، غير أن ذلك لا يكفي لتحريك المياه وضمان النجاح، فما حدث ويحدث لا تكفي معه كلمات بريئة لحل جبال من الألغاز وتوفير مناخ جيّد من التعايش السلمي أول ما أفسدته جماعة الإخوان عندما أرادت التمكين لأتباعها.
سوف يظل هذا الجرح ينزف ما لم تقدم الجماعة نفسها على مراجعة حقيقية تعلن فيها توبتها مما ارتكبته من جرائم عنف وإرهاب وتعتذر للشعب وتمنح النظام فرصة للتفكير في عملية المصالحة يزداد الوصول لها صعوبة مع مرور الوقت.
من راهنوا على سماحة الدولة وقبولها بمصالحة بعد مضي هذه السنوات أخطأوا مرتين. مرة لأنهم أخفقوا في فهم التركيبة العامة للمجتمع المصري الذي كادت ملامحه على مشارف الضياع بسبب سياسات الإخوان.
ومرة ثانية لأنهم اعتقدوا أن المشكلات الاقتصادية التي تمر بها مصر تجبر نظامها على إبداء تسامح لأقصى مدى ممكن بما فيه الصفح التام عن قيادات وكوادر الإخوان وإعادة النظر في قوانين فصلت خصيصا لمنع عودتهم للاستئثار بالمشهد السياسي في كتيبة المعارضة، والذي جعلهم يطمعون في الاستحواذ على الحكم عند أول غليان واسع مرت به الدولة، والعمل على إقصاء الآخر.
شمل الإقصاء كل آخر تقريبا ما عدا من ينتمون للجماعة مباشرة، وهي العقدة التي تقف في المنتصف وتمنع التجاوب مع دعوة العوضي، فقيام الدولة بطرح مبادرة للتعايش السلمي كما يريدها “وتمديدها لجميع أبناء الوطن للعمل سويا على أرضية وطنية مشتركة”، يحتاج إلى وضع قواعد يلتزم بها الجميع.
التعايش يقوم على أسس محددة، في مقدمتها الإيمان بالدولة الوطنية والبعد عن المكونات الأيديولوجية والدينية وعدم الاستئثار وحصره في شريحة معينة، أشخاص أو أحزاب
وهي الخطوة التي كان على العوضي وأمثاله التكاتف والعمل عليها لأن إطلاق دخان في الهواء أو محاولة جس النبض من الطرق التي تجاوزها الزمن، فالكل يعلم حجم التضييق في الفضاء العام الذي فرضه النظام ويعمل على تفكيكه من خلال الحوار الوطني الذي تحدد نتائجه شكل الخارطة السياسية في المستقبل القريب.
في مصر لا تؤخذ الدنيا غلابا، لأن النظام الحاكم يملك فائضا من القوة يمكنه من إجهاض محاولات هدم أركانه، وما حدث بين ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013 يكفي للاقتناع بذلك، فالجيش الذي حسم الأمر في الثورتين استفاد من دروسهما يعي طبيعة التحديات التي تحيط بالبلاد ولا علاقة برغبته الرامية للتحكم في مفاصل الدولة، حيث يعلم أن مصر عصية على أي قوة أو زعيم للسيطرة عليها فترة طويلة.
علّمت الخبرة المصريين صعوبة توقع ردود أفعال الشعب، وأنه ينزل النهر أو يثور مرة واثنتين وربما ثلاثا ولا يحصل على نتيجة واحدة. ففي آخر ثورتين، يناير ويونيو، جاءت الحصيلة مختلفة، وهو الدرس الذي يجب أن يعيه العوضي إذا أراد حث الدولة على تبني مبادرة للتعايش السلمي.
يقوم التعايش على أسس محددة، في مقدمتها الإيمان بالدولة الوطنية والبعد عن المكونات الأيديولوجية والدينية وعدم الاستئثار وحصره في شريحة معينة، أشخاص أو أحزاب، تقوم على تأييد النظام الحاكم وما دونها يندرجون في باب “المعارضة والخونة والمتآمرين ومن يريدون تدمير الدولة”.
يشمل الرفض كل القوى الفاشية، سواء أكانت فاشيتها معلنة مثل الإخوان، أم مستترة مثل الطبقة التي تدافع بالحق والباطل عن النظام المصري حاليا وتضع كل القوى التي تعارضه في خانة الجحيم. وهذه نقطة مركزية ينطلق منها التعايش، فالنحر الحاصل في المجتمع يحتاج إلى ذهنٍ صافٍ، وانصراف عن تجاذبات تمثل رافدا يتغذى عليه من يريدون السيطرة على المشهد، من المحسوبين على النظام والمنتمين للمعارضة.
قد يكون طارق العوضي قذف بحجر ثقيل أصاب أهدافا شتى ويقصد شيئا معيّنا، فالقراءة الدقيقة تتطلب مراجعة من الجميع، لأن الدولة لن تستطيع التغلب على التحديات التي تواجهها وبعض جدرانها متصدعة، وأول خطوة للترميم توفير الظروف المواتية للتعايش السلمي الواسع، والذي لا ينحصر في الشق السياسي، بل في التخلي عن الفوقية التي يطبقها البعض ويصبح شاملا كل مناحي الحياة.