سمير داود حنوش يكتب لـ(اليوم الثامن):

هل تُشعِل الدَجاجة حرباً أهلية؟

لندن

في العراق هناك مُدن أغلبها مُتهرّئة مزقها الفقر وأنهكتها أوجاع الإهمال والبطالة والنسيان، مُدن ضائعة من الجُغرافيا ومفقودة في التاريخ رَحلتْ عنها أغلب مُقومات الحياة لِتُحيلها إلى هياكل منكوبة، تقطنُها تجمعات بشرية وفِرق وعشائر بعضُها لا يحسِن لُغة التخاطب أو الحِوار، إلّا بوجود أسلحة ثقيلة أو مُتوسطة يتم من خلالها تبادل الآراء من خلال رَشقات تلك الأسلحة المُتنوعة كنوع من وِجهات النظر، وإذا كان الحِوار يَتّسم ببعض الهدوء فعلى الأرجح يكون تبادل الآراء فيه بالأسلحة الخفيفة أو البيضاء عِرفاناً بِعقلانية الطرفين.

مُدن هائجة لا تعرف السكينة والهدوء في توتر دائم، وهُنا لا نلومَهم فَهُم ضحايا وأكباش فِداء لِسياسات مَغلوطة وسياسيين صَعدوا على آهات جِراحهم وصرخات فقرِهم إلى كراسي السُلطة، لكنهم سُرعان ما أنكروا الجميل وغاب عنهم العِرفان.

شوارع غالباً ما يستَعِر بين أزقتّها أزيز الرصاص وصرخات الخوف لأسباب من التفاهة التعليق عليها، عند انتهاء ذلك النِزاع الذي تكون مُحصّلته على الأرجح قتلى وجرحى من الطرفين بأعذار قد تكون بسبب هَفوة كلام لم يقصدها المُتَحدّث، أو طَبق رُز في وليمة لم تُعجِب أحد المُتنازعين أو حتى قد تكون دَجاجة قد تجاوزت الحدود الجُغرافية لأزقة أحد الطرفين.

عندما تسير في شوارع هذه المُدن ترى بوضوح واستنتاج بسيط لا يَقبل التأويل تنوّع ولاءات أهلها، والزَعامات التي ينتمون إليها، والمدارس السياسية التي يَتلّقون فيها تعاليمهم وينتهجون أفكارها وعقائدها.

من أخطاء النظام السياسي في العراق أنه لم يجد الحلول الجذرية أو المُعالجات النهائية للكثير من الثغرات التي استغلّها البعض في تفاعله مع المشهد السياسي

تَصوّروا بغداد مثلاً التي تضُم مدينة الصَدر في مُسمّى سُمّيتْ به بعد عام 2003 والتي كان اسمها قبل ذلك مدينة صدّام، على اسم الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، في حين كانت تُسمى بمدينة الثورة عند بِدايات تأسيسها في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، والتي تضُم مَعقل زعيم التيار الصدري مُقتدى الصَدر. وليس بتلك المسافات البعيدة عن هذه المدينة معاقل ومقرات لِفصائل مُسلّحة ومكاتب أحزاب تتمركز في مناطق الكرادة والجادرية وحتى شارع فلسطين، جَعلتْ من هذين المُعسكرين المُتقابلين والمُتقاربين، واللذَيّن يحمل كل واحد منهُما أجندات سياسية ورُؤى مُختلفة يسعى لِتحقيقها يصطدم بنوايا الآخر، وصِراع سياسي قد يتطور إلى إشهار السلاح فيما لو ازداد خطر المُواجهة، خصوصاً إذا كان بوجود من يرغب بانزلاق البلد إلى حربٍ أهلية وقودها البُسطاء والفُقراء.

ما يُثير القلق هو اتساع حجم التنابُذ والاتهامات بين الأطراف المُتجاورة، في تداعيات قد تتطور إلى ما لا يُحمَد عُقباه، يدفع ثمنها أبناء تلك المناطق جُوعاً وفقراً وثمناً رخيصاً لِحربٍ طائشة، تَسحقهم فيها إرادات ونَزوات لِزعامات سياسية ترغب بتأجيج الوضع، مع أن خِطابها المُعلن بِرفض تلك الحرب الأهلية، لكن صِراعها السياسي بدأ يزداد حجمه إلى أن أصبح مثل كُرة الثلج التي تكبُر شيئاً فشيئاً لِتتدحرج وتسحق من يقف أمامها.

من أخطاء النظام السياسي في العراق أنه لم يجد الحلول الجذرية أو المُعالجات النهائية للكثير من الثغرات التي استغلّها البعض في تفاعله مع المشهد السياسي وشروط دخوله في العملية السياسية، بحيث كان دائماً ما يحاول تأجيل أو ترحيل المشاكل والأزمات إلى إشعارٍ آخر، أي بالمَثل العراقي “يدفع المُشكلة بِعصا”، إلى أن أصبح الحلّ مُستعصياً مِثل قضية السلاح المُنفلتْ، والأخطاء التي تَضمّنتها كتابة الدستور وقضية “تحريم” دخول الفصائل المُسلّحة إلى ماراثون الانتخابات، وضبابية تفسير مفهوم الكُتلة الأكبر، وغيرها من القضايا التي جَعلتْ من حجم التَصدّع يكبُر بمرور الوقت.

ما يحدث في النظام السياسي العراقي يُنذِر بنتائج وخيمة، وقد يتحول إلى اقتتال من الغرابة أن ترفضه أدبيات المُتصارعين عَلناً، لكنه صراع يدفع إليه من يُريد الصعود على جماجم القتلى ودماء الأبرياء إلى كراسي السُلطة والنفوذ.

ربما كانت الدَجاجة أو ذلك الطبق من الرُز أو هفوة كلام قد أشعَلتْ حرباً بين عشيرتين، فهل تُشعِل هذه المُتسبّبات صِراعاً وجودياً أو اقتتالا يسحق كُل شيء؟

في الحقيقة نتمنّى ألاّ يحصل ذلك وأن يكون برداً وسلاماً على العراق وأهله.