علي الصراف يكتب:
عباس في المستشارية.. الهولوكوست وما بعدها
“لكل مقام مقال”. بعد كل هذا العمر، لم يدرك الرئيس محمود عباس هذه الحقيقة البسيطة. وقف في دار المستشارية الألمانية لكي يقول إن “إسرائيل ارتكبت بحق الفلسطينيين 50 مجزرة في 50 موقعا”، ثم أردف “50 مجزرة، 50 هولوكوست”.
هذا الكلام يمكن أن يقال في الهند أو الصين. ولكنه لا يقال في ألمانيا. المقام لا يسمح. ليس لأنه يُذكّر الألمان بما فعلوا فحسب، والتذكير تأنيب، ولكن لأنه يعود ليُجرّم الضحية، وهو أمر على صلة مباشرة بالثقافة النازية التي قادت إلى الهولوكوست.
كيف أشرح ذلك؟
ذكرُ الهولوكوست، في ألمانيا، وفي دار المستشارية بالذات يشبه أن تقول لمضيفك “عينك عورة”. أي أنك تهينه، من دون مناسبة. وكأنك تقول له “لقد قمت بارتكاب جرائم وحشية” فقط من أجل أن تقول ذلك، طالما أن الذكر لم يأت في سياق معقول.
أما “تجريم الضحية”، فهو ثقافة لم ينقلب الألمان على شيء مثلما انقلبوا عليها. لم يعد بوسعهم أن يقبلوا تجريم اليهود، لا عندما كانوا مواطنين في ألمانيا، ولا عندما أقاموا دولة على أرض فلسطين، فعلوا ما فعلوا. حتى ولو ارتكبوا مجازر بحق كل شعوب الأرض. لأن الأمر يتعلق بما فعله الألمان أنفسهم، لا بما يفعله اليهود. هذا موضوع تمت تصفيته، ليس بدوافع التأنيب وحدها، ولكن بدوافع إعادة البناء الأخلاقي. وهذه الإعادة وإن امتدت لتشمل العلاقة مع الأقوام الأخرى، فقد ظل اليهود في مركزها. وهي نفسها التي تجعل من ألمانيا بلدا يستوعب مليوني لاجئ، في ما يشبه غمضة العين، وهي نفسها التي تجعل من هذا البلد موطنا لمواطنين تعود أصولهم إلى أكثر من 110 بلدان.
الفلسطينيون، مثل الألمان، من طرفين مختلفين، هم آخر من يحق لهم العبث بالصواب الأخلاقي في النظرة إلى الهولوكوست
لماذا لا تجوز مقارنة ما ترتكبه إسرائيل بالهولوكوست؟ السبب إنما يتعلق بصورة الهولوكوست، التي أصبح الألمان لا يرون شيئا أكثر فظاعة منها. هي فظيعة في الأصل. ولكن بما أنهم ارتكبوها، فإن أفضل وسيلة للتطهر منها ومن أعبائها هي رفع ذكراها إلى منزلة المقدس. أي مقارنة بأيّ شيء آخر، سوف تؤدي إلى “تدنيس” هذا المقدس. كما أنها لن تساعد في تخفيف الحمل الأخلاقي عنهم.
ليس لأن “اليهود” ارتكبوا جرائم في مكان آخر، يصير من الممكن للألمان أن يستهينوا بذلك المقدس، لكي يقولوا لليهود شيئا من قبيل “ما فعلناه بكم خطأ، ولكنكم ترتكبون مثله. تساوينا”. هذا غير مفيد وغير معقول. غير مفيد، لأنك تنزع التصويب الأخلاقي عن صوابه. وغير معقول، لأن التساوي في ارتكاب الجرائم لا يخفف من أعبائها. ولا يصلح كمعيار من الأساس. وإلا أصبح لكل جريمة جريمة أخرى تبررها.
لا تقارن بالهولوكوست. المقارنة يجب أن تُشطب من المتداول السياسي الفلسطيني، والعربي، والإسلامي، كليا وجذريا. أولا، لأن الهولوكوست قضية أخرى. وهي مأساة إنسانية، تستحق، بسبب من طبيعتها بالذات، أن يُنظر إليها بقدرها الخاص من التقديس، وبمقدار موازٍ من مشاعر المشاركة الإنسانية في الألم. وثانيا، لأنك تهين قدسية عذاباتك الخاصة بمقارنتها بشيء آخر. المجازر التي تعرّض لها الفلسطينيون، تحتاج توصيفا خاصا بها. وتحتاج أن تتقدس بمقدار ما تعنيه من عذابات وآلام، هي لنفسها، وليس بالمقارنة مع عذابات شعب آخر وآلامه.
اليهود الذين تعرضوا للهولوكوست، شعب آخر. لم يبق منه إلا القليل من الأحفاد. ولكن الكثير من الذكريات الجليلة التي لا يمكن الاستخفاف بها. إنها جليلة، ويجب أن تبقى كذلك. كما يجب أن تجلّها أنت بنفسك، لأن عذاباتك نفسها جليلة أيضا.
إنهم شعب آخر، لا تملك أن تبرّر بهم، أو تحمّلهم عبء أيّ جريمة. لقد أبيدوا بوحشية لا سبيل حتى لتصور مقدار بشاعتها. هؤلاء شيء، والعصابات الصهيونية التي جاءت لاحتلال فلسطين شيء آخر. الصهاينة شعب ثالث. والخلط بينهم وبين عذابات اليهود ومآسي الهولوكوست يخدمهم، ويدعم دعايتهم، ويبرر أفعالهم.
ما الذي يُلزمك على أن تخلط شيئا ممّا تحول إلى علامة فارقة في التاريخ الإنساني، بعلامة فارقة أخرى؟
ماذا تريد أن تقول؟ هل تبحث عن سبيل لرفع شأن قضيتك مقارنة بقضية أخرى؟ هل تبحث عن سبيل لإحباط المحمول الأخلاقي الذي ارتفع إليه الهولوكوست؟ هل تريد أن تخفف أعباء الجريمة عن مرتكبها الأول؟ (ما قد يُجيز للثاني أن يتخفف منها أيضا).
لقد أساء الرئيس عباس لقضيته، مثلما فعل لمرات عدة، بسبب سوء التقدير، ولأنه يتصرف تحت اعتقاد بأنه على حق، وأن هذا الحق يُجيز له أن يقول ما يشاء، أينما يشاء
كل هذا خطأ. إنه تعبير عن سوء فهم (للوقائع) وسوء تقدير (للنتائج) وسوء تصرف (للسياسة).
لغة السياسة، في القضايا ذات الحساسية المفرطة، يجب أن توزن بميزان الذهب. ليس من المعقول أن تذهب الى ألمانيا، وتدلي بتصريحات وكأنك هبطت على الناس بالبراشوت من كوكب الجهل والهمجية.
ولم يكن من الغريب أن تثير المطبات الكلامية، التي أوقع عباس نفسه فيها، ردود فعل غاضبة، حتى أن زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس ندد بالمستشار لأنه لم يطرده من المبنى. أولاف شولتس نفسه قال “إن أيّ تهوين من شأن الهولوكوست هو أمر لا يمكن احتماله ولا قبوله بالذات بالنسبة إلينا نحن الألمان”.
لقد أساء الرئيس عباس لقضيته، مثلما فعل لمرات عدة، بسبب سوء التقدير، ولأنه يتصرف تحت اعتقاد بأنه على حق، وأن هذا الحق يُجيز له أن يقول ما يشاء، أينما يشاء. المقال نفسه لكل مقام. وهذا شيء عجيب.
همجية من هذا النوع لا تصلح في العلاقة مع أيّ أحد. وهي تصيب أذى شديدا عندما تتناول الهولوكوست في ألمانيا بالذات.
من غير المتوقع أيضا، أن يكون الرئيس عباس قد استشار أحدا فيما يتوجب أن يقوله في ألمانيا. إنه هو “أبوالعرّيف” الذي لا يحتاج استشارة من أحد. وكل مَنْ حوله هم “أبوعرّيف” آخر يشبه أخاه. و”الحال من بعضو”. الشعاراتية تسمح بكل شيء. ويمكن ترديدها في كل مكان. خبط لزق.
إسرائيل لا ترتكب بحق الفلسطينيين هولوكوست. قد تقول ذلك، لأنك لا تعرف ما هو الهولوكوست، أو كيف كان. ولكنها ترتكب جرائم وحشية، يومية، بحق الفلسطينيين، يجدر أن تحمل توصيفها الخاص.
الفلسطينيون، مثل الألمان، من طرفين مختلفين، هم آخر من يحق لهم العبث بالصواب الأخلاقي في النظرة إلى الهولوكوست.