فاروق يوسف يكتب:
كلمة الرجل الصامت وجمهوره المهزوم
حين يُقال إن كلمة من علي السيستاني منعت انزلاق العراق إلى حرب أهلية جديدة فذلك يُذكّر بعام 2006 يوم تم تفجير ضريحي الإمامين في سامراء فقال السيستاني كلمة، نشبت إثرها حرب أهلية استمرت حوالي سنتين، سقط فيها الآلاف من الأبرياء من غير أن يتم الكشف عن تفاصيل عملية التفجير والجهات التي تقف وراءها ونفذتها.
وكأيّ حرب أهلية رأينا القتلى ولم نر القتلة. خرج العراق من تلك الحرب بنسيج اجتماعي ممزق، حيث صار العزل الطائفي قاعدة لجغرافيا توزيعه السكاني ولا تزال تلك القاعدة قائمة حتى اليوم، من غير أن يجرؤ أحد على إحداث خرق ولو صغير فيها. هل كانت حربا دينية أم حربا قامت لأسباب عقائدية مفتعلة؟
كل ما يُقال عن أسباب تلك الحرب لا يمكن أن يقود إلى المرجعية الدينية التي يصرّ البعض على أنها قد زُجّ بها في السياسة عنوة ولم تكن راغبة في ذلك. وذلك كلام يخلو من الحقيقة. ذلك لأن مرجعية النجف تدخلت غير مرة في السياسة متناغمة مع رغبة سلطة الاحتلال في أن تضع العراق على سكة تنفيذ مشروعها القائم أصلا على بناء نظام سياسي طائفي لا يستند إلى أسس وطنية وليست المواطنة فيه إلا اسما على ورق.
لقد دعا السيستاني أتباعه مرتين إلى المشاركة في الاقتراع العام، كان أخطرها تلك الفتوى التي حرّمت عدم الاشتراك في الاستفتاء على الدستور. فإذا عرفنا أن ذلك الدستور قد تضمن فقرات هي أساس العراق الهزيل والهش القابل للانفجار في أيّ لحظة وهو ما شهدناه في غير مناسبة وليس الانقلاب الذي قام به الصدر مؤخرا إلا انعكاس لدستور كُتب من أجل أن يكون العراق دولة فاشلة، إذا عرفنا كل ذلك يمكننا القول إن ذلك الدستور هو قانون حرب لا شريعة سلام.
تكذب مرجعية النجف حين تدّعي التعفف عن التدخل في الأمور السياسية. تلك المرجعية تتدخل في الأوقات الحرجة التي يمكن أن يتعرض فيها النظام السياسي للخطر. ففي بقاء ذلك النظام يكمن مصدر حماية مصالحها واستمرارها بأعظم صورها. النظام هو من يلمّع صورة المرجعية من خلال إعلامه ويضفي عليها هالات القداسة ولطالما وقف الوزراء في باب السيستاني رغبة منهم في مباركته لمشاريعهم الوهمية التي ستكون للمرجعية حصة فيها قد تُسمى الخمس لتكون حلالا.
في جملة واحدة تم اختصار مصير العراق كله. قال السيستاني كلمته فلم تقع الحرب الأهلية. تلك جملة كاذبة تخفي وراءها الرغبة في إضفاء المزيد من الهيبة على الرجل الذي لا يتكلم. أما لماذا عجز مقتدى الصدر عن إكمال انقلابه فتلك حكاية تتعلق بميزان القوى. لقد قُتل من الصدريين أكثر من ثلاثين ووقع أكثر من مئتين جرحى فيما لم يعلن الطرف الآخر وهو الحشد الشعبي عن قتلاه وجرحاه. كانت الهزيمة مؤكدة. لذلك كانت كلمة السيستاني التي هي ليست مؤكدة قارب نجاة للطرفين. المنتصر والمهزوم. فهما يرغبان في إكمال حوارهما من غير رصاص لكي لا يصلا إلى الفضيحة.
ليس من المستبعد أن الأحزاب تستعمل اسم السيستاني لتسويق مشاريعها. الصدر وخصومه يفعلان ذلك بالرغم من أن الصدر يعرف أن مرجعية النجف تكرهه، غير أنه يفضل ولاءه للنجف على الولاء لقُم ليكون ثمنه انهيار شعبيته القائمة على الشعارات الوطنية. ما كان يبحث عنه الأميركان في شخصية السيستاني عثر عليه زعماء الأحزاب والميليشيات الشيعية. وهو ما جرى تسويقه شعبيا. فالرجل الصامت الذي لا يتدخل في شؤون السياسة تعففا عن الانخراط في الأمور الدنيوية يقول كلمته حين يشعر أن أمن المواطنين في خطر وهو في ذلك لا يرتكب خطيئة الخروج من مبدئه. فالحفاظ على حياة الناس هو جزء من ذلك المبدأ. ذلك ما ينبغي عليه القيام به.
أعتقد أن مقتدى الصدر مؤهل للكشف عن خبايا وأسرار لعبة سياسية اسمها السيستاني. أما وقد صمت عنها فذلك لأنه يخشى انكشاف الغطاء الديني كله. فما يغطي السيستاني ويحميه يغطيه هو ويحميه. وما يرجّح كفته على الآخرين يدخل ضمن المعيار الذي يحصل فيه السيستاني على الأرجحية. مقتدى هو صورة مصغرة من السيستاني وهو يحلم بأن يكون كذلك. لذلك فإنه لن يقول الحقيقة. يكذب على أنصاره لأنه يعرف أنهم يصدقونه في الحق والباطل.
أما السيستاني فإنه يظل قوة غامضة بالنسبة إلى جمهور لا يتساءل في شأن يتعلق بالدنيا، بل بالمذهب. لقد سحرته المرويات الطائفية ولم يعد قادرا على استعمال عقله في تفسير ما يحدث له. ذلك الجمهور هو مَن هُزم في النهاية.