محمد محمود بشار يكتب لـ(اليوم الثامن):

من شرق الفرات إلى الحدود الجنوبية.. صراع الاتجاهات في سوريا

تحديد الاتجاه الجغرافي في سوريا مختلف تماما عما هو متعارف عليه عالمياً، فبعد مرور أكثر من عقد من الزمن على الصراع السوري، تعمّقت الاتجاهات لدرجة أنها باتت تُشّكل الهوية السياسية و العسكرية و الادارية و الاقتصادية لكل منطقة ضمن حدود هذه البلاد.

عملية (العوصمة) في سوريا مستمرة في مختلف أنحاء البلاد، فلكل اتجاه عاصمته الفعلية.

بعد التدخل الروسي باتت دمشق آمنة أمنياً إلى درجة كبيرة و لم تعد الفصائل المسلحة المناوئة للحكم، قادرة على ايصال قذائفها إلى العاصمة دمشق.

و لكن ما تفتقده دمشق اليوم هي أنها لم تعد تلك العاصمة التي كانت تسيطر على مفاصل القرار قبل آذار عام 2011.

شمال شرق سوريا و عاصمة تقرر تحت النار 
تدير هذه المناطق الإدارة الذاتية و هي تشكل حوالي ثلث المساحة الكلية للبلاد، و بحسب التقسيم الاداري الرسمي للبلاد فإن محافظة الحسكة بالكامل، و أجزاء كبيرة من محافظة دير الزور و أغلبية محافظة الرقة مع مركز المحافظة، و أجزاء كبيرة من محافظة حلب تقع ضمن سلطة الإدارة الذاتية لشمال و شرق سوريا.

وبحسب الارقام الرسمية يقطن أكثر من خمسة مليون نسمة في هذه المناطق، التي تحميها قوات سوريا الديمقراطية و قوى الأمن الداخلي (الأسايش).

يمثل مجلس سوريا الديمقراطية المظلة السياسية لهذا الجزء السوري، ولقد حاور هذا المجلس مرات عديدة ممثلي الحكومة السورية في دمشق و حميميم و لكن من دون التوصل إلى أي اتفاق رسمي و معلن لحد هذه اللحظة.

كما حاور مجلس سوريا الديمقراطية المعروف اختصاراً باسم (مسد) العديد من أطراف المعارضة السورية داخل البلاد و خارجها.

و مازالت الماكنة الدبلوماسية لـ(مسد)  تتحرك في كل الاتجاهات للتوصل إلى تفاهمات و اتفاقيات تضمن لا مركزية الدولة السورية التي ستكون ديمقراطية تعددية وفق ما تسعى إليه هذه الأخيرة.

تم الاعلان عن تأسيس الادارة الذاتية لشمال و شرق سوريا في أيلول\سبتمبر 2018 في مدينة عين عيسى التابعة للرقة، و أصبحت تلك المدينة عاصمة للادارةـ إلا أنها بعد الاجتياح التركي لمناطق رأس العين (سري كانية) و تل ابيض (كري سبي) في أكتوبر 2019، أصبحت تلك العاصمة تحت النيران التركية و الفصائل السورية المتعاونة معها، ولكن مازالت الادارة الذاتية تحتفظ بعين عيسى مع نقل مركز الادارة إلى داخل مركز مدينة الرقة.  

و لكن سبق هذا الاعلان و تحديداً في شهر يناير\كانون الثاني عام 2014 الاعلان عن الادارة الذاتية في الجزيرة و من ثم في عفرين و كوباني.

خاض ابناء هذه المناطق تحت راية قوات سوريا الديمقراطية حربا ضروس ضد تنظيم داعش، فكانت نهاية التنظيم على يد قسد في أواخر آذار 2019 في بلدة الباغوز بريف دير الزور على الحدود العراقية.

وقبل الاعلان عن الادارة الذاتية لشمال و شرق سوريا، كانت المنطقة تُعرف باسم (روجافا) و من ثم بـ (شرق الفرات)، الآن توسعت المنطقة لتصبح (شمال و شرق سوريا).

شمال غرب سوريا.. مدنيون في خيم الجهاديين 
تُعتبر إدلب هي مركز الشمال الغربي، تدير هيئة تحرير الشام والتي كانت تُعرف فيما مضى باسم جبهة النصرة و التي كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة، أغلبية هذه المناطق.

بينما تعج بقية أجزاء الشمال الغربي بفصائل و تيارات جهادية تدعمها تركيا بشكل مباشر، من خلال شنها لأربعة عمليات عسكرية كانت عبارة عن اجتياح بري لعدة مناطق سورية تم احتلالها تحت مسميات عديدة، ألا وهي/ درع الفرات، و غصن الزيتون، و نبع السلام، و درع الربيع.

بات هذا الاتجاه هو الجزء التركي من سوريا، حيث تم منع تداول العملة السورية و عوضا عنها تم اعتماد الليرة التركية، و باتت اللغة التركية هي اللغة الرسمية الاولى في تلك المناطق،  بالاضافة إلى استعمال اللغة العربية كثاني لغة رسمية، بينما اختفت اللغة الكردية من التداول الرسمي في المناطق ذات الاغلبية الكردية التي اجتاحها الجيش التركي.

يضم الشمال الغربي حوالي أربعة ملايين مواطن و ذلك بحسب أرقام و احصائيات مؤسسات الأمم المتحدة، و يقطن مئات الآلاف من النازحين اللذين نزحوا من مناطق كانت خاضعة لسيطرة الحكومة السورية في مخيمات عديدة، تدير تلك المخيمات فصائل عسكرية جهادية إما تكون تابعة للنصرة أو لفصائل لا تقل تطرفاً و عنفاً عن النصرة.

البوابة الوحيدة المفتوحة بقرار دولي لادخال المساعدات الدولية إلى الداخل السوري، تقع ضمن سيطرة الفصائل التي تتحكم بهذه المناطق و هي معبر باب الهوى.

دويلة التنف.. صحراء واشنطن السورية 
تُعتبر التنف أصغر الدويلات السورية، و لكنها ربما تكون الأكثر أهمية من حيث التواجد الامريكي العسكري المباشر، هذا التواجد الذي يحيط به السرية من كل الجوانب إلا ما ندر.  

تعتمد الولايات المتحدة الامريكية في هذا الجزء السوري على قوة عسكرية سورية صغيرة، و هي التي تُعرف باسم (مغاوير الثورة) و هذه القوة تُعرّف نفسها على إنها من المعارضة السورية، إلا أنها لا تمت بأي صلة أو علاقة مباشرة مع اي طرف سوري آخر.

تضم التنف مخيم الركبان، و هو مخيم سيء الصيت من ناحية الخدمات و العيش فيه بشكل عام، إلا أن المساعدات الدولية تصل إلى المخيم منها عن طريق المملكة الاردنية و منها من طرق أخرى ترسلها الامم المتحدة بشكل دوري.

أي أن سكان هذا الخيم يشكلون الكتلة البشرية لهذا الاتجاه السوري الذي يحمل اسم التنف و يقع في شرق سوريا.

الجنوب السوري.. و لعنة الحروب و الحدود 
لقد أفرز الصراع السوري الذي دخل عقده الثاني، مناطق نفوذ متعددة، تُعرف كل منطقة إما باسم القوة العسكرية التي تديرها أو تتحكم بها، أو باسم موقعها و اتجاهها بالنسبة للخارطة السورية.

حيث بات كل اتجاه جغرافي في سوريا يتمتع بمزايا تشبه مزايا الدول، فيقف وراء كل اتجاه قوة دولية و تديره قوة محلية تتبنى ايديولوجيا معينة، لكل اتجاه مرجعيته السياسية و حدوده و منافذه الحدودية و موارده الاقتصادية و كذلك قواته العسكرية.

درعا عاصمة الجنوب السوري، كانت قبل مارس 2011 من أكثر المناطق السورية استقراراً و ولاءً للحزب الحاكم، و لكن المشهد بات مختلفا تماما بحلول ربيع 2011.

حيث باتت درعا قلعة الاطفال اللذين فضحوا تمرد الكبار فكتبوا على جدران مدارسهم مطالبين باسقاط النظام، حيث تم اعتقالهم آنذاك و من ثم انطلقت الاحتجاجات الشعبية التي تحولت بسرعة كبيرة إلى مواجهات مسلحة.  

فباتت درعا هي مدينة الطفل حمزة الخطيب، و الطفلة هاجر و مهد ما اطلق عليه تسمية (ثورة) ضد حكم دمشق، هكذا أصبحت هوية درعا لدى الرأي العام المحلي و العربي و العالمي.

مرّت درعا بمراحل كثيرة، آخرها هي المرحلة الحالية أي بعد تسليم فصائل المعارضة و الفصائل الجهادية لسلاحها و مغادرة الكثير منها أرض الجنوب باتجاه الشمال الغربي.

هوية درعا الحالية متشابكة و معقدة جداً فهي تحمل في البعض من طياتها ملامح من مرحلة ما قبل ربيع 2011 و ملامح أخرى من بداية انطلاق الاحتجاجات و مازال (الدرعاوي) يتذكر صورة حمزة الخطيب و غيره من أطفال منطقته، بالاضافة إلى هذا و ذاك، يفرض الواقع اليوم على درعا خصوصية جديدة، و هي لا وجود للمعارضة و لا وجود للنظام بشكل فعلي.

بل هناك إدارة جديدة تدعمها القوة الدولية التي تقف خلف هذا الاتجاه، و تعمل تلك الادارة تحت اسم الحكومة السورية، و لكنها مستقلة بشكل فعلي عن دمشق، ربما يكون لحميميم أو حتى لتل أبيب اليد الطولى في التحركات التي تحدث ضمن حدود هذا الاتجاه.

في المحصلة درعا اليوم تعيش أكثر من اي وقت مضى فوضى قاتلة، هذه الفوضى ستزيد من عمر الصراع السوري بشكل عام.

مناطق سيطرة الحكومة السورية و العاصمة التي تحتاج إلى امتلاك القرار 
على الرغم من كل شيء، طبعا كل شيء في سوريا هي عبارة باهظة التكلفة، فهي تعني إراقة دماء مئات الآلاف و نزوح و هجرة الملايين من المواطنين و تدمير البنية التحتية في اغلب المناطق و فظائع أخرى، لكن دمشق مازالت هي صاحبة الشرعية الدولية، و مازال ممثلو الحكومة السورية أو النظام السوري يمثلون الدولة السورية في المحافل الدولية و على رأسها الأمم المتحدة و مجلس الأمن الدولي.

مازال الرئيس السوري موجودا في دمشق، التي كانت قصوره قاب قوسين أو أدنى من قذائف مدافع الفصائل المسلحة و ذلك قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 ايلول\سبتمبر 2015.

صحيح الشرعية الدولية مع دمشق و لكن الشرعية على الارض تختلف تماما، فكل الدول المتداخلة في الصراع السوري تدرك تماماً مدى أهمية و تأثير القوانين و العهود و المواثيق الدولية، و هي تعلم أيضاً كيف تستطيع تجاوز هذه القوانين إن استوجبت الضرورة و اقتضت المصالح ذلك.

أكثر ما تفتقده دمشق اليوم، و ذلك مقارنة مع ما قبل ربيع 2011، هي السيطرة الفعلية و القرار الفعلي في جميع أنحاء سوريا، حيث بات لكل اتجاه جغرافي سوري، حكامه و إدارته الخاصة و التي لا يحتاج مسؤوليها إلى جواز سفر من دمشق كي يطيروا إلى عواصم الدول الكبرى في العالم و بالتالي ليصبحوا شركاء فعليين في العملية السياسية الدولية الخاصة بسوريا.

فدمشق حاليا لا تحكم شمال و شرق سوريا، كذلك لا تحكم الشمال الغربي و لا تحكم الجنوب، هي فقط تحكم نفسها مع بعض المحافظات السورية الأخرى التي لا يعلم حكام دمشق متى تعلن هي الأخرى عن خروجها من الاتجاه الذي تتبناه دمشق وتعلن توجهها نحو اتجاه آخر.

سوريا بعد عقد من صراع الاتجاهات 

في كل منطقة سورية نَزَح – بفتح النون و الزاي - إليها الآلاف أو مئات الآلاف نُزٍح – بضم النون و كسر الزاي- منها أيضاً.

كل بقعة سورية تحولت إلى جهنم للبعض، كانت ملاذاً آمناً للبعض الآخر.

كل اتجاه حارب الاتجاه الآخر بوجود قوة دولية، و بعد كل حرب كانت هناك مجموعة من التفاهمات و الاتفاقيات الميدانية التي تمت تحت رعاية دولية، و مازالت الحرب مستعرة و إذا خمد صراع في اتجاه ما، تم اشعاله في اتجاه آخر.

إنها الأرض السورية التي باتت فوهات البنادق و قذائف المدافع تحدد اتجاهاتها، والسوريون مازالوا يبحثون عن البوصلة التي ستحدد لهم اتجاهات بلدهم من دون مدافع و لا بنادق و لكن الملايين منهم باتوا يسكنون الخيم بدلا عن البيوت و المباني، وباتت الهجرة من ارض الوطن، التي تكون طرقها غير الشرعية ملفوفة بالدم و الدولار حلماً لأغلب السوريين.