صالح القلاب يكتب:

لا غول ولا عنقاء ولا خل وفياً!

المعروف أنّ ما ضاع على أجيالنا الصاعدة هو أنه لو سئل شابٌ في مقتبل العمر وحتى في «الأربعينات» هل تعرف شيئاً عن: «الغول والعنقاء» لهزَ رأسه نافياً، وبالطبع فإنه غير مطلوب من هذه الأجيال، ربما، إلّا بعض «المتخصصين» معرفة هذه الأمور التي غدت من الماضي البعيد... والتي إنْ كانت تعني بعض الآباء وبالتأكيد و«الأجداد» فإنها لم تعد تعنى الأجيال الصاعدة.
والمؤكد أنه لو خطر ببال معلم، وخطَّ رأسه الشيب، أن يسأل طلبته: من منكم بإمكانه شرح بيت الشعر العربي القائل «أقسمت أن المستحيل ثلاثة... الغول والعنقاء والخلُّ الوفي»... فلربما رفع أحد إصبعه وقال «الغول هو زوج الغولة». وإنه عندما تُسأل عن هذا الأمر فستقول «ما لنا وما لهذه الأمور» طالما أنّ هناك كل هذه المستجدات التي قد تمت ترجمتها إلى كل اللغات الكونية؟
والمعروف أنّ الشعوب، ومن بينها الفرنسيون والبريطانيون والروس والطليان.. والبلغار، تحرص على الاهتمام بماضيها، وأنّ المعروف أنّ العرب عموماً يحرصون حتى على ماضيهم البعيد جداً وعلى شعرهم الجاهلي... وعلى رواياتهم القديمة وهذه مسألة يجب الحفاظ عليها والالتزام بها وعلى أساس أن من ليس له ماضٍ فإنه لن يكون له حاضر ولا مستقبل!!
والخوف هنا هو أن تبتعد أجيالنا الصاعدة، التي لم تمر بمرحلة «الكتاتيب» ومرحلة «الخطيب» «وضرب الفلكات» و«البيضة والرغيف»، عن هذا الماضي الذي يجب أن نبقى نرتكز عليه، إذْ إنّ من لا قديم له لا جديد له!!
إنه ضروريٌ أن تتوفر لأجيالنا الصاعدة «الإطلالة» على معظم اللغات العالمية، وبخاصة الرئيسية منها، إذ إنه من دون هذا لا يمكن أن يتوفر لهذه الأجيال الاطلاع على حضارات الأمم وعلى التعاطي مع الشعوب كلها والمعروف أنّ العالم كله قد تحول إلى قرية صغيرة... وأنّ هناك تداخلاً بين كل هذه اللغات ومن بينها حتى لغات الشعوب الصغيرة.
وبالطبع هناك الإعلام المرئي والمسموع وهناك كل هذه الفضائيات العربية وغير العربية، وحيث إن كل كائن في هذا الوجود الكوني، الذي قد أصبح قرية صغيرة، بات يطّلع على كل شيء وعلى ما في الأرض والسماوات وأيضاً ما تحت الغيوم، فإنه غير مستبعد أن تكون هناك عوالم كثيرة غير الكرة الأرضية.
ولذلك فإنّ عالمنا الحالي لم تكن أجيالنا السابقة تعرفه... ولا تعرف كل ما في هذه الأرض وما تراه من نجوم في السماء أيضاً ولا الشمس والقمر، لكن ها هو يثبت وعلى نحو متلاحق أنّ ما خلقه الله العلي القدير هو أبعد كثيراً من السماوات والأرض وأنّ هناك «أكواناً» بعيدة... وأنّ الله جلَّ شأنه على كل شيء قدير.
ثم إنه لو تمَّ التعمق في ما جاء في القرآن الكريم وقراءته قراءةً عقلية وصحيحةً وبعيدة عن قصة «الغول والعنقاء والخلِّ الوفي» لوجدنا أنّ هناك ما هو وراء الأرض وما تحت البحار والمحيطات، وأنّ كل هذه النجوم.. كلُّ نجمٍ منها يشكل عالماً غير عالمنا، وأنّ محاولات الوصول إلى كل ما نراه «يُبصْبِص» في السماء لا يزال بعيداً وأنّ الله وحده جلَّ شأنه هو من خلق هذه الأكوان وأنه الوحيد الذي يعرف معرفةً مؤكدة كل شيء.
وأشير هنا، ما دام الماضي قد شدّني إليه، إلى أنّ هناك أرضاً في عهد والدي، رحمه الله، كان يمرُّ بها سيلٌ صغيرٌ ينطلق من نبعٍ طيب الماء يقع في منطقة بين جبلين مرتفعين ويصبُّ في سيلٍ ينطلق بين جبلين متقابلين ويقع إلى الغرب من مدينة الزرقاء «الحديثة» يسمى سيل الزرقاء وهذا قبل أن تكون هناك مدينة الزرقاء الحالية.
لقد كان أهلنا عندما يدفعوننا إلى الذهاب إلى النوم مبكراً يخيفوننا بـ«شبح» يسمونه: «فيل خريسان»، وحقيقة أن هذا المخلوق الوهمي كان يخيف حتى الكبار المسلحين الذين كانوا ينقلون عنه حكايات غريبة عجيبة.
لقد قال البعض إنهم قد شاهدوا هذا الخيال المرعب والمخيف الذي كانوا يسمونه «فيل خريسان»، وكلمة «خريسان» هذه قد جاءت من أنّ ذلك الجدول المائي الذي يصب في سيل الزرقاء لم يكن له أي صوت وعلى اعتبار أنه يمر في منطقة سهلةٍ وغير منحدرةٍ بعد أن ينطلق من نبعٍ، كان أحد أعمامي، رحمه الله، قد بنى قربه بيتاً حجرياً جميلاً كنت أتمتع برؤيته قبل أن يهدمه الذين قد تذرعوا بأنه يعترض طريقهم القادومية!!
وحقيقة... إنه لم يرَ أي كائن «فيل خريسان» هذا... كما أنني أدركت لاحقاً أنّ هذا الأمر قد اخترع اختراعاً ليبعد «السراقين» والحرامية عن قطعة أرضنا، وأذكر عندما التحقت بإحدى المدارس العسكرية في مدينة الزرقاء أنني قد ذهبت إلى منطقة «خريسان» هذه لأتعرف عليها.. فوجدت وللأسف أنه لم يعد فيها لا نبع ولا أشجار، وأنني قد بحثت عن «فيل خريسان» هذا فلم أجد له أثراً، وأنّ هذه الأجيال ما عاد يهمها لا خريسان ولا فيله، وأن معظمهم لولا حكايات جداتهم وأمهاتهم وآبائهم لقالوا إن هذه الحكاية كحكاية: «الغول والعنقاء والخل الوفي»!!