إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
الأنساق الثقافية ومعالم التراث الفكري
تحليلُ الأنساق الثقافية الحاكمة على العلاقات الاجتماعية ينبغي أن ينطلق مِن صَيرورة التاريخ النابع مِن التُّرَاث الفكري ، بِوَصْفِه حَلْقَة الوَصْل بين المعنى الجَوهري للوُجود ، وشخصيةِ الفرد بكل تَحَوُّلاتها الذهنية وانعكاساتها الواقعية . والتُّرَاثُ الفكري لَيس تَرَاكُمًا آلِيًّا لمصادر المعرفة الخاضعة لِتَقَلُّبَاتِ الزَّمَن ، واتِّجاهاتِ السُّلطة ، والقناعاتِ المُنبعثة مِن العَقْل الجَمْعي، وإنَّما هُوَ تَجميع واعٍ وقَصْدِي لقوانين التفكير العقلاني ، يُوازن بين التاريخِ كَكَائن حَيٍّ ، والثقافةِ كَكِيَان حضاري . والتُّراثُ الفكري لَيْسَ نظامًا اجتماعيًّا يُؤَسِّس لسيطرةِ التاريخ على العقل، أوْ هَيمنةِ الثقافة على التاريخ ، وإنَّما هو نظامٌ معرفي عابر للثَّغَرَاتِ في حركةِ التاريخ ، والتَّشَظِّيَاتِ في الهُوِيَّة الثقافية ، وهكذا يُصبح المُجتمعُ الإنساني فضاءً مِن التفكير ، يَرْمِي إلى تحريرِ الفرد مِن الخَوف ، وجَعْلِه مَالِكًا لِمَسَاره وقراراته ، ومُبَشِّرًا بولادة فلسفة جديدة ، تُعيد الفردَ إلى الواقع ، ولا تَجعله يَهرُب مِن الواقع.وكُلُّ فلسفة جديدة تُؤَدِّي بالضَّرورة إلى صناعة زَمَن جديد، لا يَستغل شرعيةَ الثقافة لتدجينها، ولا يُؤَسِّس بالتاريخ لإلغاء التاريخ ، وإنَّما يَنقُل الوَعْيَ إلى الماضي ، ويَجعل الماضي وَعْيًا قائمًا بذاته ، وطريقًا إلى شرعية الحاضر والمستقبل . وكما أنَّ شرعية المراحل التاريخية لا تَنفصل عن ماضي الوَعْي والوَعْي بالماضي ، كذلك شرعية التُّرَاث الفكري لا تَنفصل عن نَقْد الثقافة وثقافة النَّقْد .
الترابطُ بين المراحل التاريخية والتُّرَاث الفكري يُؤَدِّي إلى تجاوزِ الأوهام الكامنة في المُسلَّمات التاريخية المفروضة بِفِعْل سُلطة الأمر الواقع . ومفهومُ التجاوز قائم على نَفْي الوَعْي الزائف وإثباتِ حُرِّية التفكير . والوَعْيُ يظلُّ شيئًا هُلاميًّا ما لَم يتحقَّق على أرض الواقع . وهذا يعني أنَّ الوَعْي يحتاج إلى كَينونة ماديَّة وحاضنة شعبيَّة ، كَي يُكمِل النَّقْصَ في العلاقات الاجتماعية ، ويُعيد حُضُورَ المَعنى إلى الغِيَاب المُسيطر على الأنساق الثقافية ، مِن أجل تحريرِ الفرد من حالة الاغتراب ( الشُّعور الذي يَجعل الفرد غريبًا عن ذاته ومُحيطه ) ، وتَخليصِ المُجتمع مِن حالة الاستلاب ( عَجْز المُجتمع عن إيجاد هُوِيَّته وذاته ، وضياعه في واقع غريب عنه ). وهذه الثنائية ( تحرير الفرد / تخليص المجتمع ) هي نَتَاجٌ طبيعي ومُتَوَقَّع لعدم اكتمال الظواهر الثقافية، إذْ إنَّها ظواهر مفتوحة على جميع الاحتمالات ، وَسَعْيُ الفرد إلى إكمال هذه الظواهر دليلٌ على نَقْصِها ، لكنَّ الوَعْي بالنَّقْص دليل على الكمال، كما أنَّ الوَعْي بالجَهْل دليل على العِلْم.والوَعْي بالمَرَض هو الخُطوة الأُولَى للعلاج.
المجتمعُ شرعية لا تكتمل إلا بالتاريخ ، والتاريخُ مشروع لا يكتمل إلا بالوَعْي . والوَعْيُ يُولَد في لَحْظته ، فهو ابنُ المُعطياتِ الإبداعية الجديدة ، ولَيس نتيجةً حتميَّةً للقِيَم المُتَوَارَثَة . ومُهمةُ الوَعْي هي تأسيسُ الزمنِ الجديدِ ، وتفعيلُ العقل النَّقْدي ، وتصحيحُ مسار الفِعل الاجتماعي ، مِن أجل تحقيقِ الترابط بين الأحداث اليوميَّة وآلِيَّاتِ تأويلها اللغوي، وتجاوزِ أشكال الضَّغْط المُتمركزةِ حَول هُوِيَّة المُجتمع ، والمُتداخلةِ معَ شخصية الفرد . وهذا مِن شأنه إيجاد منظومة معرفية قادرة على رَبْطِ النَّسَق الاجتماعي بالنظام الأخلاقي ، ونقلِ اللغة مِن دَور الوسيط إلى فضاء الإبداع ، ومِن حَيِّز الفِعْل إلى حُرِّية الفاعل ، ومِن أداة التواصل إلى آلِيَّة التأويل ، ومِن التَّنظير إلى التغيير .
لا مَعنى للعلاقات الاجتماعية خارج الأنساق الثقافية،ولا شرعية للأنساق الثقافية خارج المعايير الأخلاقية. وهذا يعني أنَّ المُجتمعَ والثقافةَ والأخلاقَ كِيَانٌ واحدٌ قائمٌ بذاته، له سُلطته الاعتبارية ، وهذه السُّلطة لا تنفصل عن الشروط التاريخية ، لأنَّ التاريخ يُطوِّق الأفرادَ معنويًّا وماديًّا ، ولا يُمكن تَطويقه . والتاريخُ كابوس يُطَارِد مَن لا تاريخ له ، ويُحاصره مِن كُلِّ الجِهَات . والتاريخُ مَجموعُ الأحداثِ اليوميَّة لا الأحلامِ المَنْسِيَّة ، وهذا يَعْني ضَرورة تَحويل المُجتمع مِن تَجَمُّعٍ للأفراد باعتبارهم أرقامًا ، إلى منظومةٍ حاضنة للأفراد باعتبارهم فاعلين اجتماعيين ، وصُنَّاعًا للواقع والتاريخ . ولا يُمكن إحداث تغيير إيجابي في المُجتمع ، إلا إذا تَحَوَّلَ الفردُ مِن رَقْم إلى اسم ، ومِن طَرَف إلى مركز ، ومِن هاوية إلى هُوِيَّة ، ومِن دَلالة إلى دليل ، ومِن رَدَّةِ فِعْل إلى فِعْل .