محمد محمود بشار يكتب لـ(اليوم الثامن):
الهروب الأخير من سوريا
في الدول المجاورة لسوريا أصبح السوري رقماً غير مستحباً على الرغم من ضخامة الرقم و إنسانية المشهد في بدايات تجاوز الحدود و التحصن بخيمة عوضا عن منزل للاحتماء من النيران التي تلفظها الأرض و السماء السورية.
هذا العدد يكبر يوماً بعد يوم، هروب السوريين من موطنهم أصبح حدثاً يومياً و الهجرة هي حديث الساعة.
لا يخلو بيت في سوريا لا يتم الحديث فيه عن الهجرة والتوجه نحو القارة العجوز، إنه الهروب الأخير هذه المرة، هكذا يقول كل من بقى في سوريا و لم يغادرها ويريد الآن الرحيل وذلك بعد مرور عقد على الصراع القائم لحد هذه اللحظة.
مع كل موجة نزوح و لجوء جديدة، تتغير ملامح المدن و البلدات و القرى السورية، تلفظ بعض العائلات أنفاسها السورية الأخيرة، استعداداً للهروب الأخير الذي سيحملهم من قاع الحرب إلى قمة العيش بسلام، أو هكذا يظنون. على الأقل مازال لدى السوري القدرة على الحلم.
يمر السوري في الأزقة و الشوارع التي ترعرع فيها، لكنه لا يرى الوجوه التي كان يعرفها و يتقن كل تفاصيلها. من عادة السوريين التدخل في تفاصيل حياة بعضهم البعض، حتى أنهم باتوا يعرفون من في الشارع القريب من بيتهم أكثر من أفراد عائلاتهم أنفسهم.
الهجرة قضمت أغلب الشوارع في كل المدن الصغيرة منها و الكبيرة، شقت البيوت إلى نصفين غير متعادلين، فهناك من العائلات من هاجر منها أكثر من نصف عدد الأفراد وهناك العائلات التي هاجرت بشكل شبه تام، وهناك من هاجر وحيداً وبقيت العائلة في الوطن ذي الجبهات المشتعلة.
هذا الهروب هو المسمار الأخير الذي دُق في نعش الأمل في إيجاد حل جذري للصراع في هذه البلاد. على الأقل بالنسبة لكل من يهاجر الآن مخاطراً بحياته و ماله الذي جمعه ربما عن طريق بيع منزله الوحيد، أو هو كل المبلغ الذي استطاع من أن يجمعه نتيجة لعمل عقود من الزمن، و لكنه يضع ذلك المبلغ تحت تصرف شخص خارجٍ عن القانون، هو المُهَرّب الذي لا رادع له و لا ضمانة حقيقية و قانونية في كل هذه العملية لأنها تتم بعيدة عن كل القوانين و العهود و المواثيق.
هذا هو قدر السوري يهرب من تجار الحروب ليقع في مصيدة تجار البشر.
هذه الهجرة الحالية هي ليست هرباً فقط من نيران البنادق و أصوات المدافع، وإنما هي فرار من النيران التي أشعلها جنون أسعار الأسواق داخل أغلب المنازل، فالمنزل الذي كان بمأمن من نيران المدافع لم يستطع أهله حماية أنفسهم من لهيب هذا الارتفاع الجنوني في الاسعار و انهيار الليرة السورية.
بكل تأكيد سيخفف برد الشتاء القارس الذي يقف العالم على أبوابه من وطأة النزوح السوري نحو الخارج، و لكن مع بداية الربيع ستبدأ قوافل المهاجرين و النازحين بالاستعداد للهروب من وطنٍ حيّر كل العالم بمصائبه و معضلاته التي لا تجد طريقها إلى الحل.
بعد هذا الشتاء سينتظر السوري ربيعه الجديد ربيع الهجرة و الفرار من البلاد وذلك بعد أكثر من مرور عقدٍ على انطلاقة الربيع العربي، ولكن مع كل موجة جديدة من الهجرة والنزوح دائماً هناك من يبقى على أرض الوطن.
*كاتب سوري