سالم سالمين النعيمي يكتب:
حدود الليبرالية في الخليج العربي
مرت دول الخليج العربي بتغيرات اجتماعية عميقة على مدى العقود القليلة الماضية، واتسعت الهوة بين الماضي والحاضر بعد الأزمات في السنتين الأخيرتين، وأثرت على كل جانب من جوانب الحياة في المجتمعات الخليجية تقريباً.
ومن جهة أخرى، تمثل الهجرة المؤقتة، إنْ صح التعبير، من خلال العاملين وشراء العقارات والاستثمار والإقامات طويلة الأمد في دول الخليج الآن، أكبر تدفق للهجرة في العالم، وبهامش كبير، وقد أدى نمو السكان غير المواطنين حتماً إلى تغييرات اجتماعية واسعة النطاق في المجتمعات الخليجية، وتثير ديناميكيات السكان أسئلة مهمة تتعلق باستدامة سوق العمل، والتحكم في الهجرة، والإقامة الدائمة والمواطنة، والثقافة والهوية، ناهيك عن دور التحضّر والتمدن أيضاً وتأثيره المتغلغل في عمق المجتمع الخليجي، ما أدى إلى اضطراب الأنماط الاجتماعية التقليدية، وتكوّن أشكال جديدة من العلاقات في المجتمع، بالإضافة إلى طغيان دور الطبقة الوسطى التكنوقراطية الجديدة في تحديد هوية الخليج العربي المستقبلية، وهي الفئة التي تملك رؤى ونظرة مغايرة عن الحقوق والحريات مقارنةً بالأجيال السابقة، ولديهم الشعور الواضح بالفخر بالتغييرات الجارية، ما خلق ثقافة مختلفة للعمل والمسؤولية، والهوية والحرية والتوجهات المجتمعية الروحية والفكرية.
وتقع الإشكالية بين واقع الأجيال الشابة والذين يمثلون اليوم القوة المحركة للشارع الخليجي، ونسبة الليبراليين والليبراليين المحافظين والليبراليين الجدد فيهم ومطالباتهم، والتي قد تفاجئ الجيل السابق من الليبراليين الذين كانوا من النخب في مجتمعاتهم وساهموا في تطورها بصورة كبيرة، وكان ولاء الأغلبية منهم مطلقاً لدولهم، وأن الليبراليين الحاليين خارج فكر جماعات اليسار الخليجي، وبقايا حركة القوميين العرب و«البعثيين»، والليبرالية الخليجية التاريخية التي بدأت منذ عشرينات القرن الماضي في الكويت والبحرين، وكانت لهم ظواهر وشواهد ثقافية في دبي من بعد ذلك وبقية دول الخليج العربي فيما بعد، وهو بحكم التفاعل مع الآخر والموقع الجغرافي.
والليبراليون الحاليون من جيل الشباب أقرب إلى الليبرالية في شقها الاجتماعي، حيث نجدهم على المستوى السياسي بعيدين إلى حد كبير عن الإيمان الحقيقي بمبدأ التعددية وقبول الآخر. لم يعد الليبراليون الخليجيون اليوم كما كان عليه الحال في السابق من الطبقة الأرستقراطية التقليدية من التجار والأعيان، ورجال الدولة والكتّاب والأكاديميين، والفئات العليا من المهنيين كالأطباء والمحامين، فهم اليوم من كل الطبقات والمستويات الاجتماعية.
والليبرالية بالنسبة لهم هي الحرية في اختيار أسلوب الحياة والعيش الذي يرغبون فيه، وأن تحترم ميولهم الفكرية والثقافية ونظرتهم للدين.
وبالرغم من ذلك تجد في عقول العديد منهم بقايا المعاناة الأبدية للعقل الخليجي، وهو التمايز والتميّز والأفضلية منذ الولادة عن بقية البشر لكونهم خليجيين، والتأصّل في الفصل الثقافي والاجتماعي عن الآخر المختلف عنهم، كما يعتقد البعض منهم أن الخصومة مع الدين والتراث نفسه هو جوهر الليبرالية العقلانية في ازدواجية بين مثالية الدين وواقعية الحياة. فمسألة ربط الليبرالية بالتطوير والتنويع الاقتصادي في الأقطار الخليجية وفق معطياتها المجتمعية والاقتصادية، وقبول الآخر المختلف في المواقف الرسمية، ووجود معارضة شديدة بين نسبة تمثل تحدياً حقيقياً للحكومات على المستوى الشعبي، ليست حلاً لجعل الفكر الليبرالي فكراً متحضراً وغير إقصائي في نموذج خليجي يكون بمثابة قالب تطبيقي لليبرالية المحدودة بنكهة محلية براغماتية صرفة، وتعديل سلم أولويات الحكومات الخليجية وتصحيحها، والانعتاق من نمط الاقتصاد المسيّس ورشدنة الخصخصة الخليجية، من خلال منظومة من الضوابط الحاكمة العادلة المعينة على تحديد مجالات الخصخصة ومعاييرها الاقتصادية والاجتماعية، مع التشديد على حتمية رفع الكفاءة الحكومية ونبذ الإقطاعية الوظيفية التي حلت محل النفوذ القبلي وأرجعته في صوره مدنية، ناهيك عن خطورة الاستسلام التام للقطاع شبه الحكومي والخاص بحجة الكفاءة والفاعلية العالية.