علي الصراف يكتب:
الاستثمارات العربية بين فائض العوز وفائض المال
أفضل الفرص لتنشيط الاستثمارات العربية هو الآن. من ناحية، لأن هناك فائض عائدات تجنيها الدول النفطية بسبب عواقب الحرب في أوكرانيا، ومن ناحية أخرى، لأن هناك فائض عوز تجنيه الدول العربية الأخرى، للسبب نفسه.
بلدان عربية مثل مصر وتونس والأردن والسودان، إذا كان لا يمكن حجبها من مجال النظر السياسي والاجتماعي، فإنه لا يمكن حجبها من مجال النظر الاقتصادي. وإذا أمكن للاستثمارات العربية أن تستغني، بما تحقق لها، لتنظر في أماكن بعيدة، فإن دول العوز لن تستغني بفائض عوزها عن النظر إليها.
ليست المسألة مسألة “تضامن عربي”. وهناك ما يبرر الخشية من استخدام هذا المصطلح. من ناحية، لأنه لطالما جاء على محمولات أيديولوجية. ومن ناحية أخرى، لأنه كان، في ممارسته، يعتمد على قاعدة العطاء. وفي كلتا الناحيتين فاسد.
المسألة مسألة فرص اقتصادية، لا أكثر. إنها مسألة عائدات تستولد عائدات، وليس مسألة عائدات تتحول إلى عطايا وهبات.
الحكومات التي كانت تتلقى العطايا، أفسدت نفسها بها أيضا. فبالاتكال على دعم المال النفطي، أصبح الإسراف على مشاريع محدودة العائد سبيلا لكي تشتري السلطات استقرارا سياسيا هشا. بينما، في حالات أسوأ، كان المال يدخل بالوعة إنفاق حكومية، لسد العجز، من دون أن تسد أسبابه. وظلت البالوعة تطلب المزيد كلما تجدد العجز.
لقد قدمت الدول الخليجية عشرات المليارات لكي تقيل مصر من عثرتها. جانب كبير منها تحول إلى هبات. الأمر نفسه تكرر في دول أخرى.
الخليجيون، إنما كانوا يتحركون بدوافع قومية، من دون خطابات، وبدوافع التضامن العربي، من دون تباه. كما كانوا يدركون في الوقت نفسه، أن الشراكة غير المنظورة، في الحاجة إلى ضمان الاستقرار الإقليمي، تتطلب تضحيات. فقدموها، من دون حساب.
لا شيء تغير في إدراك هذه المسؤولية، ولكن فلسفة الاتكاء على العطاء الخليجي أفسدت على نفسها، وأفسدته، حتى أصبح طلب المزيد مثيرا للإحراج.
لقد حان الوقت لمقاربة أخرى. الاستثمارات صار من الواجب أن تتحرر من تبعات “التضامن”، حتى وإن ظلت في جوهرها استمرارا له.
الصين لا تستثمر في أي دولة في العالم، بناء على اعتبارات تضامنية. إنها تستثمر بناء على اعتبارات تتعلق بالعائدات. تبني طريقا، أو ميناء أو منشآت اقتصادية، على أحد أساسين: إما أن تكون قروضا لكي تُسدد، وإما أن تعود ملكيتها للصين. الفائدة التي تجنيها الدولة المعنية بهذا الاستثمار تظل عالية. أولا، لجهة التشغيل ودعم التنمية العامة. وثانيا، لأن العائد، قصيرا كان أو طويل الأمد، يظل جديرا بالاعتبار.
شركات بناء الطرقات في فرنسا على سبيل المثال، لا تطلب من الدولة أن تعطيها حصة من عائدات التنمية العامة المتعلقة ببناء شبكة طرق متطورة، ولكنها تستوفي أجورا من استخدام تلك الطرق. ثم إنها تدفع للدولة ضرائب على عائداتها. الفائدة مشتركة بجلاء.
فكرة “الحزام والطريق” الصينية تقوم على هذا الأساس. لا يوجد تضامن. ولا أهداف قومية، مما حولناه نحن إلى هذيان، ولكن توجد مصالح.
بعض دولنا ما يزال يراهن على العطاء، من دون أن تقول متى يمكن أن يتوقف. ربما لأنها استمرأت الحصول على أموال مجانية، لتنفقها كيفما شاءت الخطط العشوائية. فإذا توقف العطاء، انقلب الأمر إلى لوم وعتاب، بل وربما إلى جفاء سياسي أو حتى أبعد.
وهذا كله يقوم في أساسه على فكرة لم يعد لها مبرر في عالم اليوم.
استغلال الحنو الخليجي يجب أن يتوقف، بمبادرة من الذين يحتاجون إليه. يظل الخليجيون ضعاف القلوب حيال باقي أمتهم، ولكن هذا يجب أن يقترن بثقافة عمل مشترك جديدة؛ بتضامن يتخلى عن محمولاته البائدة، ليبني علاقات مصالح متبادلة.
الفرص الاستثمارية عالية العائدات كثيرة أيضا. منها ما يشمل الطاقة المتجددة، التي لا توجد دولة عربية إلا وتدرك عمق الحاجة إليها الآن، ومنها ما يشمل استغلال الموارد الطبيعية والبشرية غير المستغلة. وهي كثيرة أيضا. ومنها ما يتعلق بالزراعة والتصنيع الغذائي.
يجب أن تبتعد السياسة عن الاستثمار. وكلما تدخلت الدولة أقل، كلما كان أفضل. يكفي أن توفر الحكومات الدعم والإرشاد وأن تقترح ما يمكن الأخذ به، وأن تقدم الضمانات وترعى الحقوق والامتيازات. ومن ثم تنسحب تاركة لأهل العمل أن يعملوا.
بمعنى آخر، اسمح لي بأن أبني حزاما وطريقا، من دون أن تحملني أعباء مشاعرك القومية التي لا تحمل مثلها مع الصين. أنا أملك الطريق. وخذ أنت العائدات التنموية والضرائب التي تنجم عن استغلاله.
ضعاف القلوب، سوف تبقى قلوبهم ضعيفة. ولكن اترك ذلك لهم. هذا شأن يخص قلوبهم هم، أما أنت فتجلد، وكن واعيا لمصالحهم بمقدار ما تعي مصالحك.
إذا كنت بحاجة إلي، فمن الخير أن تراعي مصالحي، لا أن تراهن على مشاعري. المشاعر تتقلب. ولكن المصالح صخر جلمود.
هناك أسباب لذلك الضعف. ولكن لا تضع ثقلك عليها، فتنهار. والكثير من تلك الأسباب قابل للعلاج أو العثور على بدائل. بمعنى أن “مسافة السكة” ليست بالضرورة مسارا وحيدا لا بديل له.
ما يهم في الاستثمار هو عائداته، في بيئة ضامنة وتوفر له الديمومة والاستقرار، بناء على “عوامل السوق”، لا عوامل الشعارات ولا المشاعر. إذا تحققت نظرة مشتركة له على هذا الأساس، فإن شيئا لن يحول دون أن تُشرع الأبواب للفوز باستثمارات لا تتوقف عن توليد العائدات.
فائض المال، يمكنه أن يدرك أن أفضل حماية له، هي تلك التي تقدمها بيئته المحلية. المليارات التي تُستثمر في الغرب، لا تواجه تهديدات، وتبدو حرة إلى حد بعيد، ولكنها محتجزة بكل ما هو منظور وغير منظور من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية.
فائض العوز يمكنه، في المقابل، أن يقدم تسهيلات، وأن يستوعب، بسبب حاجته على الأقل، ثقافة العمل المشترك الجديدة القائمة على رعاية المصالح.
لقد جرت عدة محاولات للسير في هذا الاتجاه، حيث تستقيل السياسة من عضوية مجلس إدارة الاستثمار. وحققت نجاحات معقولة في غير مكان. إلا أن البيئة العامة التي تنظر إلى المال على أنه عطايا، ظلت قائمة. حتى بدت وكأنها طمع لا ينقضي به الأجل. الأمر الذي ظل يُلقي بظلال قاتمة على فرص الاستثمار التالية، ويطردها لتبحث عن أماكن عمل أخرى.
لقد كان يفترض بالعلاقات الاقتصادية بين الدول العربية أن تتحرر كليا من أعباء السياسة، لتقتصر النظرة إليها على العوائد والمنافع المتبادلة بين ذوي الشأن الاستثماري أنفسهم.
ولو أن ذلك تحقق منذ الفورة النفطية الأولى قبل نحو نصف قرن، لكان العالم العربي عالما آخر تماما، لا عوز فيه. نحن الآن في فورة أخرى. و”الآن”، هو الفرصة الأفضل. لأنها الأخيرة، على أي حال.