طارق فهمي يكتب:

ليبيا.. تطورات مرحلية وسيناريوهات مفصلية

تشهد الساحة الليبية مزيدا من التطورات السياسية المتلاحقة، حيث يسعى المجلس الرئاسي إلى إعادة ليبيا للعمل بنظام المحافظات، الذي كان متبعا قبل عام 1969.

وهذه العودة بهدف الحد من الصراع على السلطة، لكن إلغاء المركزية في ليبيا سيتطلب دستورا وتوافقا سياسيا واسعا، وضرورة إحداث استقرار لمؤسسات الدولة أولا، حيث كانت طرابلس وبنغازي تتقاسمان المؤسسات، بصفتهما عاصمتَي ليبيا، وفقا للتعديل الذي أُدخل على الدستور في العهد الملكي عام 1963، لكن الرئيس الراحل معمر القذافي عدل عن هذا التقسيم لتصبح طرابلس هي المنظومة الموحدة لكل المؤسسات الحكومية.

ومعلوم أن دستور عام 1951، الذي أُقرّ إبان عهد الملك إدريس السنوسي، نص على أن ليبيا دولة واحدة تحميها مؤسسة عسكرية واحدة، وبنظام الأقاليم الثلاثة "برقة وطرابلس وفزان"، ونظام العاصمتين "طرابلس وبنغازي".. إلا أن هذا النظام الفيدرالي كان قد ألغي عام 1964 وحل مكانه نظام لا مركزي قائم على 10 محافظات.. لذا تستوجب عودة دستور 1951 الرجوع أيضا إلى النظام الملكي، حيث يعتبر الدستورُ النظامَ ملكيا نيابيا، ويمنح الملك صلاحيات مطلقة لا تلائم الوضع الراهن، كما أن نظام الأقاليم والولايات لن ينهي الأزمات الحالية، وهناك إشكالية تمثيل كتلة برقة في البرلمان للشرق بمختلف مدنه ومكوناته، مع التقدير بأن أي تغيير في النظام الدستوري يجب أن يمر عبر الشعب، إما باستفتاء وإما بانتخابات، والمناسب هو الانتخاب على أساس ثلاث ولايات، محددة وفق دستور 1951، أو وفق المقاطعات العشر المعدّلة لسنة 1963، مع الاحتفاظ بالاختصاصات ذاتها للولايات، والاختصاصات المشتركة وقانون النفط 1959.

وقد جاء هذا الطرح السابق في ظل استمرار الخلاف حول تشكيل حكومة مصغرة تتولى إدارة المرحلة الانتقالية في ليبيا، حيث هناك عدة مقترحات لشكل الحكومة المزمعة، يتمثل أحدها في إعادة هيكلة حكومة فتحي باشاغا وتقليل عدد أعضائها، وهو أقل السيناريوهات ترجيحا.

وهناك احتمالية أن يتم تشكيل حكومة جديدة مصغرة تستبعد حكومتي الدبيبة وباشاغا، وهو سيناريو يحظى بدعم بعض الأطراف، خاصةً مجلس الدولة، أما الاحتمال الثالث فيتمثل في تشكيل حكومة جديدة مصغرة برئاسة "الدبيبة"، وهو أكثر السيناريوهات ترجيحًا، كذلك هناك محاولة للتوصل إلى صيغة توافقية للترتيبات المقبلة في ليبيا تضمن تحقيق التوافق الدولي، خاصةً في ظل الحديث عن مساعٍ أمريكية لطرح خارطة طريق جديدة، بصيغة مقبولة تلقى دعم روسيا والولايات المتحدة معا.

يأتي ذلك التطور في ظل حالة التقارب الراهن بين مجلسي "النواب" و"الأعلى للدولة" في ليبيا، ووجود توافقات راهنة بين الجانبين، وهو ما انعكس في تصريحات عقيلة صالح، رئيس "النواب" الليبي، بشأن توصل المجلسين إلى تفاهمات بشأن القاعدة الدستورية للانتخابات، ما يدعم فكرة المبادرة التي يسعى "صالح" لطرحها وحشد الدعم الدولي لها حال تم استبعاد شروط الترشح للرئاسة من القاعدة الدستورية، وترك هذه المسألة للهيكل التشريعي الجديد.

يذكر أن عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الليبية المؤقتة، كان قد دعا مجلسَي النواب والدولة مجددا لإصدار القاعدة الدستورية بهدف إجراء الانتخابات، فيما كان "باشاغا" يسعى لاستمرار نيل الثقة وتركيز مهام حكومته من مدينتي بنغازي وسرت في ظل الأوضاع الراهنة.. فيما يتمسك رئيس مجلس الدولة باستمرار الخلافات مع مجلس النواب حول القاعدة الدستورية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة، حيث يرى أن ترشح مزدوجي الجنسية للانتخابات الرئاسية لا يزال مثار خلاف مع مجلس النواب.

على جانب آخر، هناك عدة ملفات متشابكة تمثل تحديا رئيسيا أمام المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، تتمثل أبرزها في القاعدة الدستورية التي لا تزال موضع خلاف داخلي كبير، ومن المفترض أن يعمل المبعوث الجديد على محاولة التوصل إلى قاعدة دستورية تمهد الطريق نحو الانتخابات، فضلاً عن التحديات المتعلقة بحالة الانقسام السياسي الراهن بوجود حكومتين داخل ليبيا، إلى جانب ملف المليشيات المسلحة والمرتزِقة، الذي يعد الأكثر تعقيدًا في الأزمة الليبية.

وفي ظل الاهتمام الأمريكي والأوروبي باللجنة العسكرية، فقد يستهل المبعوث الأممي إلى ليبيا نشاطه ولقاءاته في الساحة الليبية بتوجيه الدعوة لوفدي اللجنة العسكرية، ما يدفع لاحتمالية استئناف نشاطها المتوقف فيما يخص ترحيل المرتزِقة وتفكيك المليشيات.

وقد تتالت تطورات أخرى في ليبيا، منها تعطل عمل اللجنة العسكرية المشتركة في ليبيا "5+5" بشكل ملحوظ، على خلفية تصاعد الخلافات السياسية بين جبهتي غرب ليبيا وشرقها، حيث أقر رئيس وفد القيادة العامة للجيش الوطني في اللجنة بأن الخلافات السياسية بالفعل عطلت مخرجات وخطط اللجنة العسكرية خلال الفترة الأخيرة.. إذ إن أي مقترح كان يتطلب قرارا سياسيا في نهاية المطاف للمساعدة في تنفيذه على أرض الواقع.

وعلى مستوى التحركات الإقليمية، فقد دعمت تركيا جهود تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا، وصولا إلى إجراء الانتخابات، وتسعى تركيا خلال الفترة الأخيرة إلى إحداث توازن في سياستها بين غرب وشرق ليبيا، وقد سعت إلى جمع "الدبيبة" و"باشاغا" في لقاء لتسوية الأزمة في مارس الماضي، قبل أن تستضيفهما في وقت سابق من شهر سبتمبر الماضي، حيث أجرى كل منهما على حدة مباحثات مع المسؤولين الأتراك.

في المجمل، يرجح أن تفرز التوافقات الإقليمية الراهنة صيغة جديدة للمشهد الليبي، حيث أضحى البُعد الإقليمي هو المحدد الأكثر فاعلية في الأزمة الليبية، بما لا ينفي البُعد الدولي، كما تتزايد المؤشرات بشأن احتمالية أن تطرأ بعض التحولات في خريطة التحالفات القائمة في المشهد الليبي خلال الفترة المقبلة.. إذ إن هناك اتجاها بين القوى الدولية والإقليمية لطرح خارطة طريق جديدة في ليبيا خلال الفترة المقبلة عبر المبعوث الأممي، فيما تسعى الأطراف الداخلية لتعزيز علاقاتها بالفواعل الخارجية المختلفة لتجنب أي ترتيبات قد تهدد استمراريتها في المشهد، خاصة مع تجدد الاشتباكات المسلحة في طرابلس، رغم التحذيرات الأمريكية من عودة العنف حال عدم التوصل إلى حل سريع للأزمة الراهنة في البلاد.