الحبيب الأسود يكتب:

عندما يكرّس قيس سعيد مشروعه السياسي

يحاول مناهضو الرئيس التونسي قيس سعيد التقليل من شأن رؤيته السياسية العامة وإدارته لشؤون الحكم بعد 66 عاما من قيام دولة الاستقلال، وبعد 12 عاما من الإطاحة بعهده الثاني المتمثل في نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وحوالي 15 شهرا من الإجراءات والتدابير الاستثنائية التي أعلن عن اتخاذها في 25 يوليو 2021، والتي أطاحت بدورها بحكم الإخوان وحلفائهم ممن تصدوا للمشهد العام منذ العام 2011، ودفعوا بالبلاد إلى عدد من الأزمات المتلاحقة سياسيا واجتماعيا وأمنيا وماليا واقتصاديا، والتي اعتبرها البعض حركة تصحيحية للمسار الثوري، ونعتها مناوئوها بالانقلاب على الدستور والديمقراطية، فيما أنصارها المتحمّسون اعتبروها ثورة جديدة أول أهدافها إعادة المبادرة إلى الشعب عبر إقامة سلطة الديمقراطية القاعدية المباشرة وتهميش الأحزاب التي أثبتت فشلها خلال السنوات الماضية، واستبعاد الوسطاء لاسيما المتورطين في الفساد والمضاربين بالمال العام.

تستعد تونس حاليا لتنظيم الانتخابات البرلمانية المقررة للسابع عشر من ديسمبر القادم، وفق رؤية جديدة تعتمد على مبدأ التصويت على الأفراد بدل القوائم الجماعية، وفي سياق تقسيم جديد للدوائر ورفع عددها من 33 إلى 161، بحيث يتم انتخاب نائب واحد عن كل دائرة وفق مقاييس الواقع الاجتماعي المهيمن ولاسيما في المناطق الداخلية.

وفق أغلب المؤشرات، سيكون النائب المنتخب من صف الموالاة. ومن يزور المدن الداخلية والقرى والأرياف سيكتشف أن أكثر الساعين إلى الترشح إلى المجلس لم يسبق لهم العمل في المجال السياسي، وهم عموما من المحسوبين على تيار 25 يوليو، فيما اختارت أبرز الأحزاب والنخب السياسية مقاطعة الاستحقاق وعدم الاعتراف به وبالنتائج التي سيفرزها.

البرلمان القادم سيكون منضبطا في اتجاه واحد، ولن يكون له أي دور رقابي على السلطة التنفيذية، ولن يتم نقل جلساته مباشرة عبر التلفزيون كما كان سائدا من المجلس التأسيسي منذ أول جلساته في 22 نوفمبر 2011. كما لن يكون مسموحا لأعضائه بالخروج عن القانون، وسيكون لأي نائب مشاغب أو متورط في الفساد أو خائن للأمانة مصير واحد وهو عزله وفق مبدأ سحب الوكالة اعتمادا على عريضة من عشر الناخبين في دائرته.

عندما تحدث الرئيس قيس سعيد عن عمليات بيع وشراء للتزكيات التي يشترط أن يتقدم بها المترشح، ويفترض أن يكون عددها 400 نصفها للنساء، كان ظاهريا يتطرق إلى قضية لها أبعاد أمنية وقضائية، ويطرح في عمقها وضعية سياسية تفسح المجال لاحقا لقطع الطريق أمام كل من تتعلق به شبهة الفساد أو الخداع أو الانتماء إلى الطيف المعادي للاتجاه السياسي الجديد في البلاد. فكما هو واضح، هناك عملية ضبط وربط وخطة تستهدف بالأساس تكريس نظام سياسي جديد لا علاقة له من حيث الملامح العامة والتوجهات الرئيسية بما عرفته البلاد سابقا سواء في عهديْ الحبيب بورقيبة وبن علي أو في عهد ما بعد 14 يناير 2011.

عمليا، لا يمكن فصل الدستور الجديد ولا المرسوم الانتخابي ولا ملامح البرلمان القادم بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس الأقاليم والجهات) عن الرؤية الخاصة للرئيس سعيد وعن فكره وتطلعاته وتصوراته للجمهورية الثالثة، وعن البصمة التي يسعى إلى وضعها على الدولة والمجتمع من منطلق طموحات لم تعد خفية في استبطانها لروح الزعامة والقيادة الكلاسيكية، التي برزت بالخصوص في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

ويبدو الرئيس سعيد رافضا من حيث المبدأ لدور الأحزاب في الحياة السياسية، ورغم محاولاته نفي ذلك عن نفسه إلا أن جميع المؤشرات تؤكد أنه قد يجامل بعض القوى الحزبية الموالية لمشروعه، لكن رؤيته السياسية تعمل على إقصاء الأحزاب من أي سباق سياسي أو أي تنافس على الوصول إلى منصة الحكم، وهو ما يتبين من خلال تكريس القائمات الفردية واستبعاد القائمات الحزبية من الانتخابات البرلمانية، ومن فرض سياق سياسي عام لا حظّ فيه للأحزاب مهما كانت برامجها ومرجعياتها.

ويجد قيس سعيد مساندة شعبية كبيرة من أبناء شعبه الذين يصدقونه، ويعتبرونه زعيما منقذا، ولا يحمّلونه مسؤولية أي مشكلة قد تواجه حياتهم اليومية، بل ويعتبرون أن غياب بعض المواد الأساسية من الأسواق أو الغلاء الفاحش للأسعار من مكائد الإخوان لعرقلة مسيرته الوطنية الخيّرة. وتبدو الأغلبية الساحقة من التونسيين على استعداد لتحمّل المشاق والصعوبات طالما أن ذلك يحول دون عودة حركة النهضة إلى واجهة الحكم.

التونسيون لم يعد يعنيهم أن يكون لديهم برلمان كالذي تم حله من قبل الرئيس سعيد، فالنواب السابقون أعطوا صورة غير لائقة للعمل النيابي لم يستسغها الذوق العام لمجتمع لم يكن معتادا على حرارة النقاش وصراع الأفكار والأيديولوجيات. الدور الأكبر في ترذيل المجلس كان للفاسدين من أعضائه، الذين جاؤوا إلى قبته عبر التوافقات الحزبية المغشوشة، أو عبر المال السياسي الذي أثر كثيرا على الوضع العام في تونس خلال 12 سنة مضت، ولعرّابي الإرهاب الذين تجرؤوا على القانون وداسوا على ثوابت الدولة وعبثوا بمؤسساتها.

في هذا الإطار يتجه الرئيس سعيد إلى ترسيخ مشروعه السياسي الذي يعتمد بالأساس على الديمقراطية القاعدية وسلطة الشعب، حيث سيفسح المجال أمام التونسيين للتنافس على إدارة شؤونهم بدْءا من الحيز المحلي ووصولا إلى المركز وفق خطة يقول أنصاره إنها جديدة وستمثل إضافة مهمة إلى التجارب الإنسانية، ويرى مناهضوها أنها فوضوية وتبدو أقرب إلى النظام الجماهيري في ليبيا القذافي.

اليوم، يضع الرئيس كل السلطات بين يديه، وهو ما تم تشريعه من خلال دستور وافق عليه التونسيون، وسيعمل في المرحلة القادمة على تشكيل صورة الدولة التي يرنو إليها والتي سيقتنع فيها الشعب بأنه الحاكم الفعلي الذي يدير شؤونه انطلاقا من الدائرة المحلية إلى البرلمان بغرفتيه.

وبقطع النظر عن القراءات المختلفة لمشروعه، إلا أن المؤكد أن قيس سعيد يتجه بخطى ثابتة لتنفيذ برنامجه السياسي كما كان مخططا له، ووفق قناعاته التي تبلورت بعد 2011، في سياق التدافع على السلطة في بلد كان يبدو كسفينة تائهة في المحيط، فيما كان الربابنة يتصارعون على نصيب كل منهم من الغنيمة.

مناهضو الرئيس سعيد خفتت أصواتهم بعد أن فشلت تحركاتهم، والسبب أن الرجل يحظى بشعبية واسعة لا تزال تفرض نفسها على الخيارات العامة في البلاد، وفوق ذلك يستفيد من لامبالاة نسبة مهمة من التونسيين بالحياة السياسية، وعندما يجدون أنفسهم محشورين أمام ضرورة الاختيار، فإنهم يختارون الوضع الحالي على علاته، ويرفضون بصوت عال العودة إلى ما قبله مهما كانت الأسباب والدوافع.