عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
نحو بعث مرجعيتنا الجزائرية.. تأملات من خلال فكر بن نبي
مالك بن نبي كان عبقريا، لكن للأسف لم نجد لأفكاره نقاشا على مستوى شعبي، وكل ما هناك مجرد انبهار وتفاخر فارغ وفي بعض المرّات كذب على بن نبي ومحاولات لتحميل أفكاره ما لا تحتمله.
لا ذكر لأفكار بن نبي في المدرسة الجزائرية، لا نقاش لأفكاره في وسائل الإعلام وجامعاتنا، إلا بعض مذكرات التخرج التي لا تخرج عن إطار تكرير المُكرّر وطحن المطحون والإنبهار الأكاديمي، و غياب كامل لإرادة سياسية أو أكاديمية لدمقرطة أفكاره وجعلها موضوعا لحوار شعبي عبر الوسائل المختلفة أهمها وسائل الإعلام.
وفوق ذلك كله لا وجود لنقد حقيقي لأفكار بن نبي، عبر طرحها على ما استجد من المعطيات التاريخية، والمناهج التحليلية حتى نرى مدى صمود أفكاره وأصالتها، وإن كنت شخصيا أعتقد عدم وجود فكر يصمد أمام تقدم الزمن وتطور آلة الفكر، وأومن بأن الفكرة إن لم تستثمر في عصرها فستصبح بعد مدة فاقدة للجدوى جزئيا أو كليا.
أفكار بن نبي في رأيي لا تزال لم تُشرح كلها بشكل واضح وصريح وجريء، ولم تُمرر عبر مخروط النقد المجتمعي لتحلل على مستويات الفكر العربي و المسلم بكل مكوناته وأطيافه، وربما احتكر تيار دون آخر تفسير فكرة ما، أو ربما ذهب لأبعد من ذلك ليصل لإحتكار عقل بن نبي، غير أن هذا المفكر الفذ، وبمنهجه الواضح أبعد من أن يسقط سجينا لقوالب جاهزة، أو إيديولوجيات معينة، وهو الذي دعى للتحرر من القوالب وإعادة اكتشاف مبادئ الإسلام في غاياتها العامة والخاصة، وفي إطارها الزماني الحاضر.
كثير من تلك القوالب المُحتكِرة لمالك بن نبي تُسوق على أنه مفكر إسلامي، أفكاره نابعة من الإسلام نقية ولا علاقة لها بما يسمى الفكر العالمي، وهي بذلك تُدلس على الناس، وتجعل مالك بن نبي طفرة وتَشوُّها، وهو في الحقيقة، وفي كل فكره ليس إلا امتدادا للفكر الإنساني والفلسفة الإنسانية، فتجد في كتبه شك ديكارت، ودقة فيثاغورس، ووحدة سبينوزا، والأنماط والأدوات العقلية لبرتراند رسل، وهيكلية الأخلاق الكانطية، ولو كان كما يدعي تيار الإسلام السياسي، لما انبرى عديد من تلامذة بن نبي يبحثون عن دلائل شرعية وأسانيد فقهية تعزز موقع فكر بن نبي داخل المنظومة الفقهية، كما فعل أو حاول أن يفعل المفكر السوري جودت سعيد رحمه الله.
لكن.. كيف يستطيع الجزائري الإستثمار في أفكار بن نبي؟ و يجعل فكره مرجعا أصيلا له ولجزائريته، وهو لا يزال يصارع أزمات المصطلح في مستواها القاعدي، ولا يزال يتخبط في مشاكل هوياتية وتساءلات وجودية، ويكاد يفقد هويته المغاربية الأندلسية أمام مرجعيات وافدة من المشرق والمغرب.
عندما يتعامل الدارس مع المجتمع الجزائري على أنه مجرد أنبوب اختبار في مختبر الفكر العربي، مستقل عن باقي الأنابيب بشروط تجربته ومواده المتفاعلة وإن كان جزءا من تجربة عامة اسمها المختبر المسلم لا الإسلامي، ربما سينطلق حقا في عملية تحرير لمنهج تفكير جزائري خاص به، بعيد عما درج عليه المفكرون الآخرون ، وربما يعيد العقل الجزائري إعادة قراءة موروثه وتاريخه داخل معطياته هو، لا في إطار ما يظنه منظومة مشتركة أو ما يسميه العالم الإسلامي، الذي درج العقل الجزائري على اعتباره بكل سذاجة عالما متجانسا وبمعطيات مشتركة، والحقيقة الواقعة أنه لا يوجد عالم إسلامي كما لا وجود لعالم مسيحي ولا بوذي ولا هندوسي واحد موحد، بل هناك عوالم داخل أخرى، متداخلة تتصارع داخلها الأفكار والمعتقدات والإيديولوجيات، والفكرة الأقوى هي من تصنع عالما لها، فالدارس المُنصف يعلم أن أكذوبة العوالم الموحدة، هي أكذوبة إيديولوجية سياسية لا فكرية ولا ثقافية، فما يجمع العالم العربي أقل بكثير مما يفرقه، والمصير المشترك تحدده الخيارات المشتركة لا الموروثات المشتركة.
ما يظنه العقل الجزائري في جوامع كالدين، لم تكن يوما كذلك إلا في إطار سياسي امبراطوري، وماكانت الحروب المذهبية داخل النسيج الإسلامي إلا دليلا واضحا على أن الخيارات العقلية المنوطة بمعطيات اللحظة هي الجوامع أو المُفَرّقات الحقيقية وليست كتلة الموروثات، لهذا السبب المنهجي الوحيد، يجب على العقل الجزائري أن يعيد اكتشاف نفسه من جديد، ويترك الإنبهار الذي تَشرّبه على أنه نوع من التعامل الفكري، وأن يدع الصور النمطية التي رسختها في ذهنه عصور الإستبداد، ثم جمدتها وحفظتها عصور ما بعد سقوط الموحدين، وأن يبحث عن مسوغات منطقية لترسيخ مبادئ الحرية على أساس التنوع في مجتمعه وفي عصره، والبحث عن أسباب لإستخراج الحيوية من تلك الحرية، الشرطان الأساسيين لميلاد كل مجتمع، عند برتراند رسل، ومالك بن نبي ، وتوينبي الذي يسميها الدينامية المقابلة للخمول المجتمعي.
هذه الحيوية التي لا تحتاج كثير أفكار ولا أطنانا من الموروث كي تُطلق للمجتمع عنان أفكاره وحركته، فقارئ كتاب "ميلاد مجتمع" لمالك بن نبي يجده يقارن بين أمة اسلامية صاعدة لا تملك من العلوم شيئا أسقطت إمبراطوريات ملكت العالم بعقلها، وفي المقابل و بعد ستة قرون نجد أمة اسلامية لديها آلاف الأطنان من الكتب مكدسة في مئات المكتبات، تركع وتتحطم أمام جحافل مغولية لا زالت تتعلم مبادئ التفكير، تلك أمة كانت قد فقدت حيويتها وحريتها قبل قرن، فوجدت نفسها تسقط تحت حوافر خيل المغول الذين وجدوا حرية وحيوية في تعاليم جنكيز خان.
في كتاب شروط النهضة يُفَصّل بن نبي كثيرا، لكن قارئ الكتاب الفطن الذي يجمع فكر بن نبي يعلم أن أساس النهضة هو ثنائية الحرية والحيوية وهما مفهومين عميقين يختلفان في تصورهما من ثقافة لأخرى، لكن فهمهما من ناحية النسقية التاريخية أو بصورة أشمل عبر منظار فلسفة التاريخ، يدفعنا إلى تقبلهما في إطار الثقافة والموروث والصراع الداخلي لكل مجتمع، ففي الأخير ستضطر الحتمية التاريخية كل مجتمع و بعد صراع عقلي داخل نسيجه، على إيجاد ميكانيزمات تعطي للمواطن حريته، ليحرر بعد ذلك حيويته عبر تأسيس لخياراته أو ما يمكن تسميته بمشروع الأمة.
آخذ مثالا للمفكر أحمد محمد صبحي في كتابه "فلسفة التاريخ" يصور فيه حركة الحضارة فيقول (هي أقرب إلى أن تكون أشبه بعربة تصعد جبلا يقتضي صعودها حركة عجلاتها، وإذا كان الصعود تقدماً فليس المقصود الجانب المادي دون الروحي)، أرى شخصيا أن المثال يحتاج إلى تفصيل من الناحية التمثيلية، إن كنت أرى العربة هي الأمة فإنني أرى عجلاتها الدائرية الشروط المادية لحركتها، و أرى الجبل هو الموروث الذي يجعل من الحركة التطورية التصاعدية للعربة أكثر صعوبة وعناء، وأرى أن روح الحركة أو الحيوية هي القوة الخفية الدافعة عكس الجاذبية، أما الحرية فهي تلك الرغبة في الوصول إلى القمة.
أيها القارئ الأريب، إن أول مظاهر الحيوية هي الرغبة في معرفة نفسك والتعرف على من حولك من أبناء وطنك، وتثمين ما لديك وما يملكه وطنه، ثم نقده وتصفيته، والأمة الإسلامية في بداية عهدها كانت حيويتها في أقصى مؤشر لها، معرفة جديدة يحملها القرآن، ونقد لاذع لموروث ما قبل القرآن وصل للرفض الكامل والقطيعة في بعض مساحاته، ثم محاولة لنقد المعرفة الجديدة (التفسير-الفقه) و انفجار الأفكار وتنوعها ثم اصطدام المجتمع الإسلامي بنفسه ( تيارات فكرية ومذاهب) ثم بمن حوله (حركة العلوم وبيت الحكمة)، وكان أول صاعق لتلك الحيوية هي فعل النبي وتعاليمه في الدعوة للمعرفة ( العقيدة)، التي تتأسس على الحوار والنقاش والجدال والتدافع، ثم التوافق أو التعايش.
إنه ذلك المبدأ الذي أخذ المسلمون جزءا منه كان رافدا لحيويتهم التي أوصلتهم أين لم يحلموا أبدا بالوصول إليه.
وعلى أساس كل ما سبق، فإن مهمة العقل الجزائري اليوم، هي التأسيس لمرجعية له، مرجعية يستمدها من تاريخه المتفرد عن باقي الأمم العربية، وظروف مولده كوحدة جيوسياسية، بأن يعيد ارتباطه بمرجعيته الدينية المغاربية الأندلسية، عقيدة وفِقها، ويربط نفسه برباط فكري بفلاسفته و مفكريه ومثقفيه، ويبحث عن مشروع أممي في أفكارهم وإبداعاتهم ومناهجهم، وأن يدافع عن هويته ومميزاته وتنوعه ويقف في وجه كل تسلل غريب عن جسده، والأهم من كل هذا هو إعادة اكتشاف نفسه من جديد، لعله يؤسس لحرية يستنبط منها حيوية تقلع به نحو المستقبل الحقيقي، لا المستقبل الماضي.