عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

الجنائز للأحياء وليست للأموات

فقه الجنائز، كم كُتبت فيه من كتب وأوراق طالت السحب، وكم خَصص له الفقهاء من وقتهم الأغلى من الذهب، وكم أعادوا قول ما قيل وكتابة ما كُتب، وكم اجتهد السلف فيه واقتصد الخلف، وكم تكلم فيه الدُّعاة وتناظر الفهم والصَّلف، هل كانت كل تلك المجلدات والأسفار، لا هَمّ لها غير الكلام في فصول وأبواب،  وجعلها فاكهة لمجالس العلم ورياضة لذوي الألباب، أم أنها كانت تنويرا للعقول المظلمة، وتأسيسا للقوانين في الدول المسلمة.
فرق شاسع بين ما في الكتب، وما نراه في الواقع ، غياب وفقر في القوانين التي تنظم الجنائز بما يناسب فقهها، تقابله ممارسات فرضتها العادات لا علاقة لها بمقام الجنازة وهولها، ودعاة كل همهم ترديد الكلام والتمنطق، والحفاظ على الهالة والرونق،  داخل مدارسهم أو مذاهبهم، يتقاذفون الأدلة والقرائن ويتبادلون التزكيات والشحائن.
حينما نقرأ في فقه الجنائز، لا نجد شيئا منها في الواقع، إلا كما نجد الأثر بعد العين، نجد أفعالا وشعائر فارغة من كل معاني الموقف المنوطة به، وخاوية من كل المشاعر المرافقة له،  وعارية من كل أصول التربية، فإن كانت تشييعا لشهيد، وجدنا صراخا وعويلا  وتكبيرا وموكبا متدافعا ومشيعين بعضهم يموج في بعض، وربما جثة تتململ فوق الرؤوس وتكاد تسقط وربما يتعرى الميت ويسقط عنه غطاءه أو كفنه، فأين كرامة الميت وأين هيبة الموقف، وأين ما نقل عن الصحابة وسكوتهم في الجنازة،  عند البيهقي وأبو نعيم عن قيس بن عباد وما قاله النووي  رحمه الله في كتاب الأذكار: (واعلم أن الصواب والمختار وما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوت بقراءة، ولا ذكر ولا غير ذلك).
وأين الفقه في جنائز يحمل فيها الميت في شاحنة كانت مخصصة للخضار أو المواشي ويركب مع النعش أناس حتى أنهم لا يتركون لأهل الميت مكانا وفرصة لتوديع فقيدهم، ويكثر الصراخ والقلاقل وتضيع هيبة الموقف، و في المقبرة الموحشة،  يدفن الميت ويدلّى في قبره وحوله غوغاء من غير أهله، وربما يكشف عن وجهه عند اللحد غريب ويسلب هذا الحق أهل الميت، وربما يكون الميت امرأة فتعظم المصيبة، ويتخاطف الناس الرفش كل واحد يريد رمي حفنة من التراب على القبر،  يطلبون بذلك  أجر سُنّة ما،  وجب اغتنامها، فيكثر التحاسد، وحتى التضارب فوق رأس الميت، ومجموعات تتكلم في أمور الدنيا، وأخرى تضحك، وأخرى متحلقة حول رجل مهم تستجدي منه عطاءا، وإمام يريد الخلاص من واجبه وإكماله والعودة حالا،  فلا تَذكّر ولا اعتبار لهول المقام ولا عظمة الموقف، وإن وافق ووعظ الإمام أو شخص ما تقمص شخص الإمام، تكون عظته تخويفا وترعيبا وتهويلا، ممزوجة بخرافات و روايات لا أصل لها، يوصلها الخطيب بصوت يشبه الصراخ ،  بدل التبشير و الإستبشار برحمة الله وثوابه الجزيل والكلام عن الجنة والنعيم وعطاء الله اللامحدود، فالميت مؤمن ومن حضروا مؤمنون.
رأيت جنائز النصارى، هي أقرب في معانيها وبعض أشكالها،  لما أتت به تعاليم رسول الله وسنته، موكب مهيب يلبس الناس فيه أبهى ما لديهم، وصمت رهيب يكاد يُطبق على الصدور ، ودموع صامتة تعصر القلوب عصرا، ومقبرة تشبه حدائق عدن،  ثم خطبة لقسيسهم تُذكر  بهول المقام لكل من حضر، فيتكلم بصوت هادئ لا صراخ فيه، عن مصير الإنسان، ومهمته في الدنيا تجاه الخالق ، فيرفع عن  الحزين حزنه  بتذكيره بالنعيم المنتظر، والمقام والمستقرّ،   ثم يُدلّون الجثة في القبر، وينصرف الناس بأدب وصبر، مستبشرين بالميت سائلين حسن الخاتمة،  وتتكفل بعد ذلك شركة معينة منوطة بها مهمة الدفن والقيام على المقبرة.
لكننا في جنائزنا لا نزال في حيرة من أمرنا، فقهاء ومسلمون لا يزالون مختلفين  هل المشي يكون أمام الجنازة أو وراءها أو في مشروعية الصلاة في المقبرة، و الدعاء للميت جماعة أو فرادى، وكيفية الدفن لحدا أو شقا، عوض أن نفكر في إسترجاع هيبة الجنازة التي سلبت منها، وتحويل فقه الجنائز لقوانين مدنية تنظم الجنائز وتؤطرها و تسمح للشعب بإنشاء  وكالات تقدم خدمات جنائزية تتناسب ودينه، و تنظم الدولة   المقابر بشكل تصبح في نظر القانون مؤسسات خدماتية مؤطرة و منظمة بدل فوضى التطوع والصدقة، وقوانين ضعيفة لا ترقى للمنشود ولا تدير بحكمة حتى الموجود،  وتلك المساحات التي أصبحت بعضها تشبه مستودعات حشر، أو مساحات ردم للنفايات، مقابر جرداء موحشة،  مخيفة و مرعبة،   ترمى فيها جثث الناس دون حفظ  لكرامة الميت المسلم، وعواطف أهله،  وشعب لا يهمه من أمر الجنازة إلا القيراطان من الحسنات فيا ليته ضمن تحصيلهما ويا ليته فهم أن الجنازة للحي وليست للميت.