الحبيب الأسود يكتب:
الإمارات والنزعة العنصرية في تصريحات بوريل
انتبهت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى النزعة العنصرية في توصيف جوزيب بوريل الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للمشهد العالمي عندما اعتبر أن الاتحاد الأوروبي حديقة وبقية العالم من حولها أدغال، وأن على الدبلوماسيين الجدد ألا يكتفوا بالاهتمام بالحديقة، وإنما هم مطالبون بالذهاب إلى الغابة.
هذا الدليل الإرشادي الذي قدمه بوريل أمام الدفعة الأولى للأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية، استنكرته أبوظبي، ورأت وزارة خارجيتها لدى استدعائها القائم بأعمال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لديها أن التصريحات التي تضمنته كانت “غير مناسبة وتتسم بالعنصرية”. و”تساهم في تفاقم التعصب والتمييز على المستوى العالمي”، وقد كانت بذلك العاصمة الوحيدة في العالم التي نددت رسميا بالاستعارة العنصرية، وطلبت تفسيرا مكتوبا لما جاء على لسان المسؤول الأوروبي الذي سرعان ما حاول التنصّل من الخطأ الذي ورّط نفسه فيه في سياق حالة من التشنج سيطرت عليه وعلى غيره من المسؤولين الغربيين خلال الفترة الماضية ولاسيما بعد إطلاق روسيا عمليتها العسكرية في الداخل الأوكراني.
موقف أبوظبي يشير إلى أن الإمارات تقوم على أفضل وجه بدورها، كعاصمة للتسامح، وكحاضنة للحوار بين الأديان والحضارات، وكقوة دفاع عن القيم الإنسانية ومنها العدالة والمساواة بين البشر، وكحائط في مواجهة خطاب الكراهية الذي اتسعت دائرة انتشاره بالاعتماد على وسائل الاتصال الحديثة.
لا تكتفي الإمارات باتخاذ قرارات سياسية في إطار جهودها الداخلية لتنمية روح التسامح على أرض تعتبر نموذجا فريدا للتعايش الثقافي والحضاري بين السكان المحليين والمقيمين من كل دول العالم تقريبا، وإنما توظّف جميع إمكانياتها وقواها الناعمة في متابعة مشروعها للأخوة الإنسانية ورصد أي خرق لمبادئ التسامح أو دعوة للكراهية والتفرقة بين البشر، لتكون بذلك الصوت الذي يرتفع عاليا من أجل الدفاع عن قضيته دون مساومة مع أي كان، وعندما أخطأ المسؤول الأوروبي الكبير كانت له بالمرصاد، ودفعت به إلى الاعتذار والبحث عن تفسير مختلف لعباراته، بل ولفتت أنظار أغلب المراقبين الدوليين إلى تصريحاته المثيرة للجدل وهو ما وضعه في موقف محرج أمام الضمير الإنساني.
كان يمكن لتصريحات بوريل أن تمر في صمت، لو لم تلفت إليها الإمارات انتباه العالم وخاصة من خلال وسائل الإعلام التي عادت للبحث عنها وعن تفاصيلها بعد الإعلان عن موقف أبوظبي الذي عرّى جانبا قبيحا من نظرة الغرب لبقية الدول والشعوب والحضارات. لا تزال العنصرية تعشش في عقول الكثير من عناصر النخب السياسية والثقافية في أوروبا والولايات المتحدة وتفضحها في أحايين عدة، تصرفات ومواقف صبيانية تتأسس على مبدأ نظرية التفوق المزعوم التي أضحت تتجلى بالخصوص في مشاريع الهيمنة بدعوى امتلاك الحقيقة باسم القطب الواحد، وفي عودة التيارات السياسية والفكرية المرتبطة بالفاشية والنازية والعقائد المتشددة، وبداية ظهور ملامح مرحلة تستعيد ما كان عليه الوضع في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.
في كلماته أمام دبلوماسيي المستقبل، أعرب بوريل عن سعادته في المشاركة في ما أسماه “لحظة الخلق”، انطلاقا من مبدأ أن تكون “حاضرا في الخلق” وهي الكلمات التي قالها منذ سنوات عديدة أحد أشهر الدبلوماسيين جورج كينان في مذكراته التي اعتمد عليها صناع القرار الأميركان في وضع سياسات بلادهم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولاسيما الحرب الباردة، ولكن القراءة الجديدة تنطلق من مبدأ اندلاع الحرب الحارقة بدل الباردة، وإعادة الخلق وفق معايير لحظة التشنج الراهن، فمن ليس مع الغرب في صراعه ضد روسيا هو من تلك الأدغال التي تهدد سلامة الحديقة وتمثّل خطرا جديا.
قد يكون بوريل مصدوما بالوقائع المتلاحقة والظروف الصعبة التي تمر بها دول الاتحاد في علاقتها بالعالم المحيط، خروج بريطانيا من فلك الاتحاد بعد علاقة عاصفة معه، وهزيمة الحليف الأميركي في أفغانستان ومغادرته المذلة لكابول، ووضعية فرنسا في منطقة الساحل واضطرارها لمغادرة مالي والإطاحة بحلفائها في عدد من الدول آخرها بوركينا فاسو، وصعود الشعبويات إلى السلطة وعودة النزعة القومية والقُطرية إلى صدارة المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، وظهور عنصريات جديدة لعل أبرزها ما بدا للعيان بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، فحديقة العالم الحضارية التي تزعم أنها ساحة الديمقراطية والحريات العامة والخاصة، انكفأت على نفسها وضاقت بكل مختلف، وعجزت عن تقبل حتى الموسيقى والروايات القادمة من عصور القياصرة، وعن القبول بالرأي الآخر الذي قد يطرحه الإعلام الروسي، وكان مجرد وجود قوى خارجية محايدة أو أكثر رصانة في مواجهة المستجدات، يمكن أن يضع أصحابه في دائرة الأدغال بما تعنيه من حالة توحش.
اعتاد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على استعمال سلطتهما المادية والمعنوية لابتزاز دول العالم أو منظومة الأدغال وفق ما ورد على لسان بوريل، ولاسيما أنهما يشكلان معا صورة القطب الواحد الذي بسط نفوذه على القرار العالمي بتفكك الاتحاد السوفييتي قبل 40 عاما. اليوم هناك تحولات فعلية وصادمة بالنسبة إلى الغرب، فالزيارة التي أداها رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد إلى موسكو ما كان لأي زعيم آخر من خارج دائرة التحالفات الضيقة مع موسكو أن يقوم بها، ولو فعلها لانقلب العالم من حوله، ومشهد الرئيس بوتين وهو يخلع معطفه ويضعه على كتف بن زايد ليقيه من زخات المطر، كان يمكن أن يدفع بالأوروبيين ومعهم الأميركان إلى هيجان لا حدود له، لكن الجديد الذي فرض نفسه منذ سنوات هو أن أبوظبي شبت عن الطوق وخرجت من عباءة تحالفات الاتجاه الواحد لترتبط بعلاقات وطيدة مع مختلف دول العالم وفق ما يتلاءم مع سيادتها الوطنية واستقلالية قرارها اللتين تحققتا على أسس البناء المتين للمنجز الاقتصادي والمالي والاجتماعي والثقافي وللدور الجيوسياسي الذي تلعبه في محيطها الإقليمي وعلى الصعيد العالمي، فالإمارات تعتبر اليوم دولة متقدمة على الكثير من دولة حديقة بوريل، وأغلب دول الغرب الكبرى تسعى لنيل رضاها والارتباط معها بمصالح حيوية، بل إن أغلب مواطني الحديقة يطمحون إلى زيارة الإمارات والاطلاع على ما بلغته من تطور في كل المجالات. بكل المقاييس لا يمكن وضع الإمارات في دائرة الأدغال وهي دولة شابة وراقية تعد بنموذج غير مسبوق للعالم من حيث أنها على الأقل غير متورطة في سوابق استعمارية أو استغلالية لبقية الشعوب الأخرى.
لقد نبهت الإمارات إلى أن تصريحات بوريل تساهم في تفاقم التعصب والتمييز على المستوى العالمي، وتعتبر مخيبة للآمال، حيث تأتي في وقت تدرك فيه جميع الأطراف أهمية احترام الأديان والثقافات والمجموعات العرقية الأخرى، فضلا عن قيم مثل التعددية والتعايش والتسامح، وجاء هذا التنبيه ليؤكد أن الدولة الفتية المتسامحة على ضفاف الخليج العربي آلت على نفسها أن تكون حارسا أمينا لتلك القيم في مواجهة محاولات الاعتداء عليها وبخاصة من قبل من كانوا يدعمون رعايتها، قبل أن يتبين أنهم يرعونها بقدر ما يحققون من ورائها من مصالح أبرزها التفرد بالسيطرة على العالم.