عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
نحو إعادة اكتشاف ثورتنا وتحرير المصطلح.. أو مشروع الأمة الجزائرية
ثورة التحرير الجزائرية، كانت وستبقى معجزة من معجزات القرن العشرين، و مرحلة مهمة بل الأهم من بين كل مراحل التاريخ الجزائري الحديث، وسببا من الأسباب التي صنعت هوية الجزائري كجزائري، لكنها لا تكفي لوحدها لتخط خطوط المستقبل المتشعبة لشعب متنوع كشعب الجزائر ، ولا يمكن أن تكون الجوهر الأوحد لكل شيء فيه، لأن الإنسان ليس ابن ماضيه فقط، بل هو صناعة لتطلعاته واختياراته أيضا. و يبقى التاريخ مجرد لحظة قد تجمدت في زمن ما، ويبقى الإنسان كتلة أفكار تركب نهر الزمن نحو مستقبل سرعان ما سيتحول بدوره إلى تاريخ.
على الجزائريين تجاوز الجزء الظرفي في ثورتهم، وإدخاله متحف التاريخ والكبرياء مكانه الطبيعي، ورفع راية الإصلاح الفكري والعملي في الجزء المطلق و الحي من تلك الثورة، منطلقين من المبادئ التي خَطّتها الثورة وجعلت منها ملامحا لدولة الجزائر الحديثة، وعدم السقوط في فخ التاريخانية، وكذا فهم وسبر أغوار جدلية الجمود والإصلاح، لنفهم كيف نرتبط بمستقبلنا دون أن ننفصل عن تاريخنا، و ذلك قبل أن يتجاوزنا الزمن، ويتركنا سجناء الماضي بدل أن نكون أبناءه الذين يتطورون نحو مستقبلهم.
ثورة الجزائر ومفاهيم النوفمبرية لن تستطيع أبدا لوحدها العبور بالجزائريين من على جسر الحضارة المتهالك نحو معارك العصر الحديث الحقيقية، ونحن اليوم كجزائريين لم تعد لدينا نفس هموم أجدادنا في القرن العشرين، لأن معاركنا اليوم لم تعد تشبه معاركهم، والواقع يؤكد ذلك بشكل لا شك فيه.
ففي زمن مضى كان هم آبائنا هو تحرير الأرض، ثم الوقوف بين الأمم كأمة ناشئة، أما همنا اليوم، هو تحرير عقولنا والسير مع الأمم كأمة مساهمة في طريق الحضارة. وتحرير العقول لن يكون قبل تحرير المصطلح من ديكتاتورية الإيديولوجيا، وفتح المجال ليحاور العقل الجزائري نفسه في ساحات وطنه، ويبدع من خلال التحاور مع ذاته، نظرة جديدة لوطنه ومشروعا له.
ولكن الواقع الجزائري، لمن يراقبه مراقبة العارف بخبايا الخطاب وتحليله، ومن موقع خارج عنه وبعيد عن التأثر به كي يحافظ على حياديته ، سيرى ما يدفع العاقل ليرتعب بشكل يجعله يدق نواقيس الخطر وهو يعلم أنه لن يجد مستمعا ولا مهتما، ومن ضمن ينابيع الرعب التي لا يهتم لها أحد، تلك الحرب المصطلحية التي بدأت منذ الإستقلال تستعر جمارها تحت رماد ثورة تحريرية مسلحة انطفأت نيرانها، وصخور فكرية حطها سيل الثورات والإصلاحات من عل، وسلاسل قهرية كانت مظهرا من مظاهر الأنظمة السياسية المولودة حديثا من رحم حروب تحريرية ضد الإحتلال الإمبريالي، وأبابيل عقدية وفقهية جاءتنا من جغرافية غريبة عنا فجلبت الفُرقة في ما كان يجب أن يكون هو الوحدة.
حروب مصطلحية تكلم عنها علماء ومفكرون أفردوا لها كتبا ومقالات، أذكر منها كتاب معركة المصطلحات لعبد الله شريط رحمه الله، حيث كان هذا الكتاب بمثابة خريطة ذهنية للمجتمع الجزائري في حقبة السبعينيات المفعمة بالصراعات الفكرية، ساعدت من درسها على إيجاد نقاط ارتكاز منهجية و معرفية لفهم المجتمع الجزائر الذي يطور نفسه دون توقف، منطلقا من المصطلح ليصل إلى التجسد.
ثورتنا التحريرية صبغتنا بصبغة جعلت عقل الجزائري عقلا انفعاليا وعمليا، لأننا ركزنا على الجانب العملي فيها وهو القتال والرصاص والحديد والنار، فترى الأجيال المتعاقبة لا تعرف من ثورتها المجيدة غير أسماء المعارك وضراوتها وعدد الشهداء وجرائم الإحتلال ومجازره في حق الشعب الجزائري، ولا يعلم عن معارك الفكر والكُتاب والمؤلفين وأصول الفكر الثوري الجزائري الذي يرجع إلى بداية القرن العشرين إلا القليل، وربما لا يعلم ذلك أصلا، حتى أورثنا ذلك عقلا متعجلا لا صبر له و لا يلتفت إلى عالم الفكر والتنظير، وكثيرا ما يسألك الجزائري إذا ما حاولت الغوص به في جذور فكرة «..إيه ..ماذا تريد أن تقول ؟ ..اعطني الحل بسرعة..!» مصداقا للمثل الجزائري الذي لا يعرفه شباب اليوم (طريق العربي قدام عينيه).
القارئ لهذه السطور من الجزائريين العمليين لدرجة التألي على الآلة نفسها، قد يتهمني بالتنكر لثورتنا ومبادئ نوفمبر ، ويبدأ في رصف مصطلحات لا تزال مجرد مضغات مُخلّقة وغير مُخلقة لم تخضع بعد لنفخ روح النقد فيها. ويغفل عن أهم سؤال وجب أن يطرحه وهو ما مدى معرفتنا لأصول أزماتنا الفكرية قبل أن نذهب للبحث في أزماتنا المعيشية.
هذا السؤال دليل على وجود ذلك السجن المفاهيمي الذي يغرق فيه الجزائري منذ أن رسمت سياسة الحزب الواحد فكره وضميره، وتنكر لكل موروثه العقلي والفكري والتاريخي الذي استطاع صناعته إبان مقاومته للإستعمار، منذ أول يوم اكتشف الجزائري أنه وحدة في مجموعة جغرافية مستقلة تواجه وحدها احتلالا استيطانيا اسمه فرنسا الإمبراطورية. ولا أتكلم عن الجزائر بعد 1830، بل أتكلم عنها منذ نشوء ما يسمى بمملكة الجزائر في القرن السادس عشر. فالجاهل لا يعلم أنه كانت بين أجدادنا وفرنسا أكثر من ستين حربا قبل دخولها الجزائر في 1830.
تصريح قديم لوزير الخارجية الجزائري السابق السيد بوقادوم، الذي قال فيه أن وزارته في صدد جمع كل المعاهدات التاريخية بيننا وبين فرنسا، وأن الجزائر موجودة قبل 1830، عمل كهذا وإن جاء متأخرا، لا ينفي أن هناك مفكرون وأكاديميون جزائريون، كان لهم عصا السبق في هذا المجال، وما عمل الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم ببعيد، ولكن زخم الثورة المصطلحي هو من جعل الجزائري يظن أن الجزائر تشكلت معالمها مع الأمير عبد القادر، مع أنها موجودة منذ منتصف القرن السادس عشر في شكل إداري جنيني.
لست أدري إن كان ذلك العمل الذي أعلن عنه الدكتور بوقادوم وزير الخارجية السابق مستمرا أو توقف، ولكنني أتمنى أن يكون عملا أكاديميا هدفه المساهمة في خلق عقل جزائري مستقبلي، يعمل على تشكيل شخصية الجزائري ومفاهيمه بحقن نتائجه في المنظومة التعليمية.
وفي الأخير ،أحذر مرة أخرى من سجن المصطلحات الذي نرزح داخله تحت نير الظلم التاريخي والديكتاتورية الفكرية ، والذي أوصلنا إلى مرحلة لا نستطيع التواصل فيها حتى ونحن نتحاور، وأعيد وأحذر كما حذر أساتذة وعقول جزائريون منذ الإستقلال من أن الجزائر يجب أن تبحث عن شخصيتها في كل مكوناتها الإثنية والعقدية والفكرية وتتحرر من العقل العملي، وإلا كان مصيرنا إما الموت التاريخي تحت وطأة الظلم والفرعونية، أو الإندثار بعد التنازع ثم الإفتراق. وعلى من يريد تحمل مسؤولية مستقبل الجزائر، من الشباب الذي يحلم بالدخول إلى معترك السياسة، أن يدخله مسلحا بالفكر الصحيح الذي تحمله لغة عصره من مصطلحات صحيحة محققة للمفاهيم ، ومتحكما في أدوات عصره العلمية التي تؤهله لفهم أزمات وطنه بشكل نظري وعملي معا، وإلا كان مجرد تكاثر سرطاني في النسيج السياسي ، وربما زاد تعقيد الأمور، وساهم في تكريس الجهل والتفرقة والتشتت أكثر فأكثر، وأدعوا هؤلاء الشباب إلى تشكيل جبهات وحركات فكرية حديثة قبل أن يشكلوا حركات وجبهات سياسية، لأن الجزائر أصبحت تحتاج إلى مصابيح تنير عقلها، ومكانس تكنس العفن المتراكم، وأحذرهم أنهم إذا لم يكونوا حاملين لفكر مجدد جامع تصالحي، أن يقفوا حيث هم و لا يزيدوا هموم الجزائر ومصائب على مصائبها، ووجب أن يعلموا أن الفكر الوطني الذي تنشده الجزائر العميقة عمق تاريخها الجدلي، أعمق من موروث حركة سياسية جزائرية بدأت مع بداية القرن التاسع عشر، بل هو فكر نجد مصابيح بل منارات تعلن عنه، في فكر تشكل يوم تشكلت دولة الأندلس وتحررت فقها ومصطلحا وعقلا عن المشرق لتشكل هوية أشمل وأرقى إسمها المغرب الإسلامي العربي.
أخيرا، الجزائر دولة تريد أن تجد مكانتها بين الدول، ولن يكون ذلك إلا بحمل مشروع أمة حقيقي يمكنها من إعادة تعبئة شعبها تعبئة فكرية عقلانية تواجه به مستقبل العالم في عصره المعلوماتي المبني على اللغة و الفكرة لا على الحركة والإنفعالية، أما التعبئة التقليدية التي لا تخرج عن تهييج الأحاسيس الثورية و المقاوماتية ومشاعر الفخر الفارغة، فلم يعد ينفع في شيء، فأجيال المستقبل لم تعد تستجيب للمنبهات المصطلحية نفسها، ووجب اليوم أن نبحث في خط جديد، يجعل من النوفمبرية نقطة اقلاع لا هدفا، ومن نداء نوفمبر مسودة مشروع لا مشروعا متكاملا. هناك فقط سنعيد النظر في المفاهيم الجامدة لنطورها ونحاول اللحاق والإلتحاق بعصرنا الذي سبقنا ولم نعد نسمع فيه إلا صدى أنفسها الغاضبة في فراغ كمي عدمي، لا يدعو إلا للموت الحضاري.