عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

بين الثورة والتمرد والحركة، مثلث التغيير ومسؤولية النخبة

لن نستطيع الذهاب بعيدا بشباب لم يتعلم بعد أن الثّورة في الشّارع تسبقها ثورات في العقل والفكر،  و تبنيها الندوات ومجالس الفكر وصراعات الكُتّاب والمؤلفين والمفكرين.

هذا المواطن الشاب الذي يحلم عبثا  بامتلاك حياة ما، دون أن يفكر فيما تشترطه تلك الحياة، و يرى في قراءة رواية مضيعة للوقت، ويرى في الفلسفة تفاهة وعبثا وربما كُفرََا وزندقة، ويرى في الفنون نَزَقا وصفاقة، ويرى في نقاش أفكار المجتمع خطرا عليه وعلى وُجوده.

هذا المواطن الشاب الذي لم يبحث عن نفسه وهو في مرحلة البحث، لن يستطيع الإستمرار في ثورة ما أكثر من استمراره في غضبة من أجل سُبّة أو شتيمة تلقاها في سوق من أسواق الملابس المستعملة أو السّمك العفن.

هذا الشاب المواطن الذي يحركه الغضب لا الفكرة، وتدفعه الحاجة لا الرغبة، وتوجهه العواطف لا المنطق، ويتحكم فيه الضمير الجمعي لا قناعاته، ويسوقه كل ناعق على رؤوس الأشهاد من أشباه الإعلاميين وأشباه السياسيين، لا يمكن أن نثق في انفعالاته، ولا يمكن أن نُسَلمه اللحظة التاريخية يفعل بها ما يشاء.

قد يلومني البعض ويقول : ألا تثق في شباب الجزائر؟، وأي فرق بينك وبين من تناضل ضدهم؟

أقول له: نعم أثق فيه في المصانع والجامعات والمدارس  والمؤسسات والمزارع والإنتاج، ولكنني لا أثق في انفعالاته فيما يخص اللحظة التاريخية، والتي يجب أن تحددها وتقودها النخبة، والتي إذا تركت هكذا بين أمواج الإيديولوجية، فستنقلب وبالا على الجميع، والدليل على ذلك انفعالات الشباب تجاه الإستفزازات العابرة للحدود والذهنيات، وانجراره وراء طبول الحرب وهو يظنها طبول أعراس، وفوق ذلك استعداءه لكل ما لا يفهمه من فكر، دون مناقشة ولا حوار، وانقسامه حول ما لا يجب أن ينقسم لأجله، واجتماعه حول ما يجب أن يختلف فيه.

قد لا يفهمني البعض ويقول أنت ضد شباب الشعب وضد فكره الثوري نحو التطور والتغيير!

أقول: ثورة الشعب ليست وجبة عشاء نطلبها من مطعم عبر تطبيق هاتفي، بل هي اللحظة التي تكون نتيجة تفاعل عوامل كثيرة أهمها، القاعدة الفكرية والتصور العقلي لمستقبل ما،  ثم تأتي العوامل الإجتماعية والإقتصادية لتكون الصاعق الذي يدفع المواطن المطحون ليتحول إلى محرك  للفكر والفلسفة.

أما الثورة التي يسميها البسطاء ثورة، ورأينا كثيرا منها،  أمثلة منصوبة أمام أعيننا من الخليج إلى المحيط،  بحيثياتها المتلاطمة ونتائجها المدمرة، فهي عندي مُجرد تمرد شعبي سرعان ما سيبرُد رماده، أو يُحطِّم الوطن المسكين ولن يغير شيئا فيه، لا في نظامه ولا فكره ولا فلسفته ولا ثقافته، بكلمة أخرى،  لا جديد ولا تطور ولا تغيير ولا تغير.

إذا لم تجتمع النخبة على ضرورة فتح نقاش حقيقي وحوار واقعي على مستوى الأفكار والفلسفات، ووضع إطارات فكرية  ومنظور لمجتمع الجزائر الذي اكتشف الجزائريون أنه مختلف واقعا عما كان يُسَوق لهم عبر أكاذيب التشابه والمجانسة ضاربة بعصى التوتاليتارية ذلك التنوع العضوي في جزائرنا الحبيبة، والذي يجعل منها وطنا غنيا بمكونه البشري قبل ثرواته الطبيعية، فسنجد أنفسنا أمام عودة للرداءة، هذه المرة بشكل أفظع وأقذع، وستعود عجلة التاريخ لتعيد طحن المطحون وهذه المرة ستكون دورتها أسرع وأخطر.

مهمة النخبة أولا هي تربية الشباب على هضم الأفكار بعيدا عما ألفه من قوالب  وخلفيات  وأنماط فكرية  وأحكام مسبقة، وجعله يفهم نسقية التاريخ في مجتمعنا الجزائري بمنظور محايد بعيدا عن العواطف الهدامة، وتدريبه على النقد المنطقي الديكارتي للظواهر وعدم التفويض لغيره من أعداء الوطن لقيادته نحو مستقبله.

عليه أن يجوب وديان العشق الفلسفي، وخلجان النقد المنطقي وبحار المعلومات المتلاطمة ويتعلم المشي والإبحار فيها قبل أن نسلمه اللحظة التاريخية.

عليه أن يعيد إحياء نفسه في مرايا النخبة الدارسة والعاملة من داخل وطنه، وأن يجذب بحبل العروة المرفوع إلى قصور تلك النخبة لينزلها إليه، فتناقش مشاكل وازمات وطنه، لتعيد قراءته ثم بعثه من جديد.

على شباب الوطن أن يرتبط بنقاشات نخبة وطنه، وأن يجعل من سجالاتها الفكرية، منطلقات عملية من أجل إبداع تصورات لوطن يضم الجميع ويخدم التنوع الطبيعي ويحمي الحرية وضرورة الإختلاف.

كفانا تمردا، جربناه كثيرا وجربه غيرنا لكنه لا يصلح إلا لتحطيم الأوطان وترسيخ الإستبداد.

لا أريد ثورة،  لأننا لا نملك لا مسوغاتها المنطقية ولا التاريخية، ولا حتى مبرراتها الأخلاقية، ولم تجتمع ظواهرها ومظاهرها لتجعلها حتمية بعد، وهي لا تصلح في رأيي  إلا في حالة الدفاع عن الوجود.

ولكنني أحلم  بحركة جنين في بطن أمه، حركة اجتماعية تأخذنا لنرى المواطن المقيم يتحول إلى شريك في وطن، أتوق لرؤية حركة فكرية فلسفية تعيد الجامعات والمعاهد إلى دورها الحقيقي في بعث النقاشات الحقيقية لتجعل من العقل الجزائري مِرجل أفكار لا مخزن إيديولوجيات و محرك ديماغوجيات، أحلم  بإعادة قراءة لعقلنا وفكرنا وموروثنا كله، لعلنا نستطيع تصور التغيير الحقيقي الذي نريد، وربما نرسم أولى بشائر التغيير حينما نبدأ من أنفسنا.

إليك  أيها القارئ مثلث التغيير  فاختر الرأس الأئمن والأصلح والأوثق والأنجع، إنه رأس الحركة.